انطفأت أضواء الاستوديو.. وسمعت صرخات صاخبة : اطلع بره بره..المذيع أصيب بحالة تشنج عنيفة : إنت كده هاتهز أمن البلد...اطلع بره... زاد التشنج: ..اقفلوا الهوا...اقفلوا الهوا...هكذا انتهي مشهد لم يعد غريباً علي منصة الفضائيات. رجال يتكلمون معاً، كلماتهم عصبية، بمن فيهم المذيع المتأنق أناقة موظفي الاستقبال في الفنادق، المتحدث الرئيسي شكله غريب تماماً، هو مجمع علامات ورموز موديلات اجتماعية متضاربة، بدلة محامٍ من «محامي السلم» ( فئة ظهرت في العشرين سنة الأخيرة يقفون علي سلالم المحاكم ويعرضون أنفسهم علي المتهمين الذين يحضرون بدون محامين)...ولحية متهدلة بفوضي سلفية، وعلامة صلاة بارزة، وعين مفزوعة وصراخ:..«الرئيس ميت...والبلد..فوضي بلا رئيس». المذيع صرخ : هذا كلام لا يجوز هنا.. إنت غاوي شهرة... (ومادام غاوي شهرة لماذا اتصلت به واستضفته؟..) الحلقة كانت عن بلاغ يطلب سحب الجنسية من البرادعي وجمال مبارك (المذيع ركز علي البرادعي..وكلما أتي الكلام حول جمال مبارك..قال للضيف: خلينا بس في البرادعي الأول..) الرجل متعدد الرموز تحول إلي حالة مجنونة وظل يردد من علي أريكته: «الرئيس ميت...ميت..» وجاره يتبرم ويشيح بوجهه ويهتف بصوت عال:«.. إنت خطر..وقلنا لك إنك ستضرنا» ...الضيف الثالث بصوت جهوري:«إنها قضايا..تضيع وقت البلد..» الثالث ببدلته البيضاء وقميصه الوردي، محترف قضايا من نوع المطالبة بمحاكمة الراقصة دينا بتهمة إفساد التعليم، وقضايا أخري ضد عمرو دياب وعلا غانم..وعبير صبري. الأربعة يتكلمون، حفل هيستيري مجنون تتكرر فيه الكلمات بشكل متواتر : البلد..مصر...الرئيس..الأمن القومي....واتهام المتحدث الأول المصاب بحالة دروشة...ويكرر ما يقوله، ويرد عليه الجميع بإيقاعات مختلفة، الأربعة رجال يصلون للنهاية بطرد صاحب نظرية موت الرئيس والبديل. وهو بالفعل شخص يقول كلاماً خارج حدود العقل، تقدم بأوراق ترشيح لمنصب الرئاسة في انتخابات 2005، وضرب الأرقام القياسية بتقديم 100 بلاغ للنائب العام حول قضايا متنوعة بداية من عزل البابا وحتي إلغاء المذهب الأرثوذكسي..لكن قنبلته عن بديل الرئيس الذي يحكم جعلته بطلا لواقعة الطرد من الاستوديو. المذيع ارتعد لأن الكلام عن موت الرئيس قيل في ملعبه ...ولهذا أظهر الكارت الأحمر، وهو يردد بعدها: الرئيس خط أحمر.. الرئيس خط أحمر. النهاية الحمراء فتحت من جديد شهية الكلام عن حرية الرأي : هل من حق مذيع طرد الضيف؟ الطرد فضيحة إعلامية، والبرنامج كله فضيحة : مَنْ هؤلاء ؟ هل هذه هي معارضة النظام؟ الفضائيات بهذه الاستعراضات لم تعد فضاء، لكنها أصبحت مصدراً لفراغ، أو لتفريغ المحتوي السياسي للمطالبة بالتغيير، وتحويله إلي ما يشبه الجنون الرسمي. المذيع يدير الفراغ ليثبت «قدسية» الرئيس، فهو يجلس بمباركته، يراقبه ضابط أمن دولة، يحسب بميزان دقيق كلماته وكلمات ضيوفه. القضية ليست حرية ولا حرية، فالكلمات التي قيلت والصرخات التي صرخت والجنون الذي سال، كان سيركاً معتماً، لا يفتح الروح المتمردة علي النظام..يغلقها، يجعلها حيواناً برياً، ولد في سنوات اليأس بلا أب ولا أم. هذه بضاعة سنوات الاستبداد الطويلة تسد الأفق السياسي المسدود أصلا. لم يهمني اسم الشخصيات، فهم جميعاً كومبارس مسرحية سخيفة، كومبارس يتغيرون بلا تأثير، دورهم ملأ المساحات وشغلها، ليتشابه كلامهم مع الكلام الجاد، ويتحولون إلي نجوم مسرح فارغ.