أعترف بأنني من الأغلبية التي تقدر وتؤمن إيماناً قوياً بالموهبة الكوميدية السياسية الفذة التي تمتع بها الأستاذ المرحوم الرئيس أنور السادات، ووّظفها توظيفاً خطيراً لخدمة حكمه، وقد كان أحد أطرف وأظرف وأخبث تجليات هذه الموهبة (كانت لها تجليات شبه يومية وفي كل المجالات) أن المرحوم أسس نظاماً سلطوياً عجيباً وفريداً من نوعه يُبقي علي الجوهر الديكتاتوري والقمعي لكنه يُلون خلقته الشائهة المشوهة برتوش وأصباغ «تعددية» مُزيفة وفاضحة الفساد، وبمقتضي هذا النظام فإن الحكم بنفسه هو الذي يختار معارضيه ويعينهم بقرار جمهوري (بعد ذلك أضحي هذا القرار من اختصاص معاون المباحث) في وظيفة «معارض ميري» مُعتمد ومختوم علي قفاه بختم النسر. ولا يزال أبناء جيلي يتذكرون كيف أصدر الرئيس الراحل أمام كاميرات التلفزة قراراً يقضي باختراع حزب جديد (هو حزب العمل الاشتراكي آنذاك) لكي يعارضه المعارضة التي يحبها جنابه، وحتي يساعد الحزب الوليد علي الوفاء بشروط التأسيس لم يتحرج السادات من «تسليف» مؤسسيه (علنا) عدداً من النواب الحكوميين تزعمهم صهره النائب محمود أبو وافيه، ثم أصدر في اللحظة عينها وقبل أن تجتمع لجنة الأحزاب التي «افتكسها» قراراً آخر بتعيين وترقية الحزب المُخترع إلي درجة «معارض أول» للحكومة!! لكننا نعرف الآن أن «حزب العمل» هذا تمرد وخالف بقوة شروط اختراعه، وتمكن تحت قيادة نخبة من السياسيين المخضرمين توفر بعضهم (أمثال المرحومين إبراهيم شكري وحلمي مراد) علي قدر عال من الاستقامة والصلابة، من تحويل «الديكور» إلي معارضة جادة وحقيقية (مهما كان رأيك في بعض مضامينها) انتهت في عصر الرئيس مبارك إلي العصف بالحزب وتجميده وإغلاق صحيفته وإدخال رئيس تحريرها الزميل مجدي أحمد حسين السجن مرات عدة، آخرها مستمر منذ نحو عامين بتهمة «دخول مصر» والتضامن مع أهلنا المحاصرين في غزة!! وفي عصر الرئيس مبارك أيضاً، ورغم السماجة وثقل الظل التاريخيين اللذين خيما عليه، فإن هذه الكوميديا السياسية النادرة جري التوسع فيها وتطويرها حتي لامست الشواشي العليا للمسخرة، آية ذلك أن تعيين واختراع الأحزاب المكلفة بعمل «شويتين» معارضة علي ما قُسم كده في وقت الفراغ، لم يعد كما أيام السادات بقرار رئاسي بل بقرار من مباحث التموين، أما تراخيصها فقد صارت تُمنح (حصراً تقريباً) ليس لسياسيين متخاذلين أو من النوع اللعوب، وإنما لقطعان من الصُيَّع الغلابة يستخدمونها أحياناً ك«طفاشة» لفتح أبواب الشقق وأحياناً أخري لبيع «البانجو» بالقطاعي في الزوايا وعلي النواصي، وفي كل الأحوال فإن أصحاب هذه التراخيص الجديدة (ونسبة متزايدة من حائزي التراخيص القديمة) أضحوا لا يرتكبون أي معارضة نهائياً لا في وقت الفراغ ولا في أي وقت آخر، لكنهم في كل الأوقات تراهم يحزقون بشدة بينما هم يعارضون ويشتمون ويسبون الدين والملة للمعارضين الحقيقيين للنظام، وقد يمعن جزء كبير منهم في إظهار الإخلاص لحضرة الضابط اللي مسرحهم إلي حد محاولة فض «الحراك السياسي» بمطاوي قرن الغزال. والخلاصة.. أن أحزاب المعارضة الميري (أو أغلبيتها الساحقة) هي الآن جهاز «الأمن المركزي» الأقوي والأشد قسوة وتخريباً ضمن الترسانة القمعية لنظام الرئيس مبارك وولده، فبهذه «الأشياء» يصنعون التزوير الشامل في المجالس النيابية، ومنها ينتقون «الكومبارس» و«المقاطيع» الذين يلعبون بأرخص الأسعار دور «الطيشة» في مهزلة التمديد للرئيس أو توريثنا لنجل سيادته.. إلخ. أخدني الكلام حتي تآكلت المساحة ونسيت أنني كتبت هذه السطور من أولها لآخرها لكي أنبه القارئ العزيز وأحذره من خطر الإسراف في قراءة التعلات والحجج التي يقولها قادة أحزاب المعارضة الميري هذه الأيام لتسويغ مواقفهم المشينة ومعارضتهم إعلان مقاطعة الانتخابات التشريعية المقبلة التي يعرفون أكثر من غيرهم ويعلمون علم اليقين أنها لن تكون مزورة وهزلية فحسب بل سيتم اختلاق نتائجها اختلاقاً من العدم التام.. تسأل: لماذا أحذرك؟ لأنك قد تُشل أو تموت من الضحك وتساهم بذلك في تحقيق المهمة التي تعاقدت الحكومة ومباحثها مع هذه الأحزاب علي تنفيذها، ألا وهي المساعدة في إجراء انتخابات نظيفة من الناخبين ومن الشعب كله لو أمكن!!