(1) اقرأ أطروحته أولاً يوما ما فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى. لم يكن ليضيّع فرصة المرور بجوار سوق الزهور عند نهاية الحى القديم من مدينة «اكس إن بروفانس» الفرنسية ولو كلفه ذلك خمس دقائق إضافية أخرى للوصول إلى معهد العلوم الجنائية، زهور بديعة تفترش ميدانًا فسيحًا فى هذا الوقت الصباحى المبكر فيبدو المشهد أخّاذًا رائعًا. مبهج أن يستقبل المرء يومه برؤية مثل هذا البساط الساحر من الألوان. دقائق أخرى وكان أمام البروفيسور «جاسان» يناقش معه قائمة المراجع العلمية لأول بحث سيعده فى هذه الجامعة العريقة. فوجئ بالسيد جاسان يقول له: غريب أنك لم تدرج فى قائمة مراجعك عنوان أطروحة علمية فذّة لأحد أبناء بلدك. ردّ عليه مندهشًا: لم أجد فى موضوع بحثى أطروحة لأحد المصريين. قاطعه قائلاً وهو يبتسم: «بلى، هناك أطروحة بالغة الأهمية للسيّد.. ثم نطق الاسم بلكنة فرنسية.. جامال الدين. أعمل ذاكرته محاولاً العثور على الاسم ثم هتف أتقصد السيد عبدالأحد جمال الدين؟ ردّ عليه بسرعة: أجل.. أجل.. إنه هو! ثم أضاف قائلاً: «اذهب واقرأ أطروحته ثم دعنا نلتقى بعد أسبوعين». آخذًا بنصيحة السيد جاسان أمضى أسبوعين فى قراءة عمل علمىّ مدهش يتّسم بالجدة والابتكار. شعر بالزهو وهو يكتشف أن العديد من المراجع الفرنسية كانت تحيل القارئ على هذا العمل العلمى المميز مع أنه كان منسوخًا على الآلة الكاتبة ولم يكن منشورًا ضمن سلسلة معروفة تضمن له الانتشار. فى الموعد المحدد ذهب إلى لقاء البروفيسور جاسان فى مكتبه دون أن يخلف موعده مع سوق الزهور! دخل عليه ولم تزل فى روحه خيالات لوحة الألوان أما العقل فكان منتشيًا بتأثير أفكار السيد جمال الدين! تحاور مع البروفيسور «جاسان» فأفضى إليه بأسئلته ثم أنصت إلى نصائحه، وبينما كان يهمّ بالانصراف سأله جاسان فجأة: قل لى.. أين السيد جمال الدين الآن؟ أجاب بعد برهة: إنه وزير الشباب والرياضة. أطرق السيد جاسان للحظات ثم أضاف: إذن لقد خسرت الجامعة لديكم عقلية علمية مميزة. ثم أردف قائلاً: أرجو أن تكون السياسة قد كسبته! (2) مجرد تساؤلات السؤال موجّه لنا جميعًا. لماذا نهجر نحن الأكاديميين والعلماء جامعاتنا ومختبراتنا وأروقة فكرنا إلى دهاليز السياسة ودواوين الإدارة؟ هل هى «ندّاهة» السياسة بصوتها الغامض الساحر أم هو نداؤنا الداخلى فى التعبير عن أفكارنا واهتماماتنا خارج أسوار الجامعة؟ قد يرى البعض أن المناصب السياسية والوظائف الإدارية الرفيعة تعطى من الأضواء والبريق ما لا يمنحه طريق الفكر والعلم المحفوف بالمشقة المسكون بالزهد. لكن لا أحد ينكر على أية حال أنه طريق طالما منح مرتاديه فى نهاية المطاف النشوة والرضا والمجد. وربما قليلاً من المال! هكذا يمكن أن نرى حياة المفكرين والعلماء والأدباء فى المجتمعات المتقدّمة. لكن الحاصل فى المجتمع العربى، وفى بلد كمصر على وجه الخصوص أن كثيرًا من الأكاديميين الواعدين والموهوبين سرعان ما ينصرفون عن مواصلة رحلة مجدهم العلمى إلى إغراءات وربما إغواءات المجد السياسى والإدارى. وفى ذروة العطاء ولحظة اكتمال الموهبة تختطفنا السياسة وكأنها «النداهة» التى تهتف فى دواخلنا بندائها الخفىّ العجيب. وسرعان ما نترك حلمنا العلمى أو مشروعنا الفكرى متجهين صوب منصب سياسى أو إدارى، فما الذى يدفعنا إلى ذلك؟ وما هو الإيجابى والسلبى فى هذه الظاهرة؟ ثمة وجهة نظر أولى ترى أننا أمام ظاهرة إيجابية تجسد روح المبادرة والانشغال بالعمل العام ولا تخلو منها المجتمعات الغربية المتقدمة على أية حال. ثم إن الموهبة الإنسانية ذات تجليات متنوعة فلماذا يصادر حق هذه الموهبة فى التعبير عن نفسها ولماذا تحرم السياسة والإدارة من مواهب الأكاديميين والعلماء؟ لكن الملاحظ أن هجرة العلماء والأكاديميين إلى أروقة السياسة ودواوين الإدارة فى المجتمعات المتقدمة لم تصل بعد إلى حد الظاهرة. أما لدينا فقد استشرت الظاهرة إلى حد أننا عرفنا فى بلد كمصر حكومات متعاقبة كان أكثرية الوزراء وكبار المسؤولين فيها من الأكاديميين. ومن مصر يبدو أن الظاهرة قد انتقلت إلى مجتمعات عربية أخرى وإن كانت بدرجة أقل. نحن إذن بصدد ظاهرة جديرة بالنقاش مثيرة للتساؤل. ما الذى يدفع أكاديميًا مرموقًا أو عالمًا بارزًا لأن يهجر مجال إبداعه الحقيقى والأصيل إلى منصب سياسى أو موقع إدارى كبير؟ وما الذى يدفع المؤسسة السياسية أو الإدارية لأن تستقطب العقول الأكاديمية مع أنه كان بوسعها أن تستعين بآخرين ربما لا يقلّون كفاءة سياسية؟ هل لأننا كأكاديميين سرعان ما نستجيب لإغراء المنصب السياسى أو البيروقراطى إن لم نبادر نحن بالسعى إليه؟ ربما يجد الأكاديميون والعلماء المصريون والعرب عمومًا فى السياسة أو الإدارة إغراء وجاذبية بأكثر مما يجدون فى حياتهم الأكاديمية والعلمية، وربما أصاب بعضهم الضجر من حياة أكاديمية ليس فيها سوى الزهد والانزواء. (3) وجهات نظر! هناك من يرى أن للمنصب السياسى أو البيروقراطى إبهارًا لا يقاوم بقدر ما يمنح لصاحبه النفوذ والسلطة وهما دافعان مهمان من دوافع السلوك الإنسانى. لكن السؤال هو: ولماذا كان دافع الأكاديمى العربى إلى النفوذ والسلطة أشدّ من الدافع لدى قرينه الأوروبى أو الأمريكى مثلاً؟ هل لأن السلطة فى بلاد العرب تمنح الشعور بالتميز والقوة بأكثر مما يمنح ذلك العلم والفكر؟ من المؤكد أن للسلطة وجاهتها وبريقها لكن للفكر والعلم أيضًا مجدهما وخلودهما. على أية حال ليست المشكلة فى المقارنة بين ما نحصل عليه من السياسة وما نحصده من العلم والفكر، المشكلة على وجه التحديد هى أن نداء السلطة والنفوذ يبدو لسبب ما غير مفهوم وكأنه يتحكم فى خياراتنا ويوجه مواهبنا وقدراتنا ويروض مبادئنا وأفكارنا. فما هو السبب الحقيقى؟ هل هو إغراء السلطة «النداهة»؟ أم السبب يكمن فينا نحن؟ أم أنه المناخ العلمى والفكرى الذى لا يضمن لأصحابه الحد اللازم من التقدير والحد الأدنى من التكريم؟ لعله كل هذا معًا.. هذا الذى يمكن تلخيصه بثقافتنا المجتمعية. ثقافة تعلى حتى لدى أهل العلم والفكر مجد البيروقراطية والإدارة على أى مجد آخر. أليس تبوؤ منصب عميد كلية أو رئيس جامعة هو فى عقلنا الباطن قمة المجد الأكاديمى الذى نسعى إليه جميعًا علانية وسرًا؟! مع أننا نعلم جميعًا أن هذه المناصب الأكاديمية فى الدول المتقدمة هى وظائف إدارية بحتة يشغلها فى الغالب شباب الأكاديميين ممن هم أحيانًا دون درجة الأستاذ. المسألة إذن هى ثقافة مجتمعات. وهل كانت ثقافتنا المجتمعية قادرة على استنفار موهبة مثل مجدى يعقوب أو أحمد زويل أو مصطفى السيد أو غيرهم لو أن أيًا منهم بقى فى مصر؟ أم أن أقصى أحلام هؤلاء كانت ستكون مثل كثيرين غيرهم هى الوصول إلى منصب عمادة كلية أو رئاسة جامعة؟ ربما يرى البعض أن «المال يمثل دافعًا» آخر لتفضيل المجد السياسى أو البيروقراطى على المجد العلمى؟ من الناحية النظرية يصعب اعتبار «المال دافعًا» لأن ما نعلمه هو أن رواتب شاغلى المناصب السياسية والإدارية فى كثير من المجتمعات العربية هى رواتب ضئيلة يحتار المرء بسببها أحيانًا ويشفق على أصحابها. لكن ثمة كلامًا كثيرًا حول عدم دقة هذا التصور من الناحية الفعلية! ويزداد الأمر حيرة عندما يتأمل المرء حالات ضحّى فيها أكاديميون من أجل السياسة أو الإدارة بما كان يعود عليهم من دخل مالى كبير نتيجة ممارسة نشاطهم المهنى الموازى للعمل الأكاديمى. فمن المؤكد أن مكاتب المحاماة وعيادات الأطباء والمكاتب الاستشارية والمشروعات الصناعية والتجارية تؤمن لأصحابها دخلاً يفوق بكثير راتب الوزير ومخصصاته. تتعدد الأسباب والتفسيرات على أية حال لكن تبدو الحقيقة واحدة وهى أن بريق السياسة فى مجتمعنا العربى يختطف لأسباب غير مفهومة الكثير من المواهب والكفاءات العلمية الفذة التى كانت كفيلة بإثراء حركة التنمية فى مختلف المجالات! قد يرى البعض أن علماء مرموقين فى مجال تخصصهم مثل د. فتحى سرور ود. مفيد شهاب وغيرهما قد حققا نجاحًا كبيرًا فى حياتهما السياسية بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع مواقفهما السياسية. وهناك علماء أثروا المواقع الإدارية التى شغلوها مثل د. محمد غنيم مؤسس مركز الكلى فى المنصورة، وإن كان الدكتور غنيم قد أدار الصرح الطبى الكبير بعقلية العالم وليس بتوازنات السياسى أو ببيروقراطية المدير. لكن يظل هؤلاء على أية حال هم الاستثناء الذى يؤكد القاعدة. أما القاعدة فهى أن عموم الظاهرة قد أفقرت الجامعة دون أن تغنى السياسة بالضرورة. ثم إن الأكاديميين والعلماء هم مشروعات إنسانية مثمرة وناجحة أنفق عليهم المجتمع الكثير منذ بداية طريقهم العلمى وحتى لحظة دخولهم إلى عالم السياسة. إنه استثمار مكلف وطويل لم يحقق كل عوائده! (4) أين الإعداد السياسى؟ يتبقى سؤال أخير حول دور المؤسسة السياسية فى تسييس الأكاديميين والعلماء. هل تبدو قطاعات المجتمع الأخرى فقيرة فيما تفرزه من كفاءات سياسية وإدارية؟ إذا كان أساتذة الجامعات قد شغلوا فى بلد كمصر أكثرية المناصب السياسية ومواقع الحكم المحلى فأين «الكوادر» السياسية الأخرى فى المجتمع؟ ربما تبدو ندرة «الكوادر» السياسية الصالحة لمثل هذه المواقع بسبب ضعف الحياة الحزبية فى مصر على مدى نحو أربعة أو خمسة عقود. وهى نفسها الحياة الحزبية التى اتسمت بالحيوية والنشاط فى العقود السابقة على ثورة يوليو 1952. قد يكون لدينا كفاءات سياسية خارج الحرم الجامعى لكن أحدًا لا يحاول البحث عنها أو يحسن توظيفها. الأمر المؤكد أننا ما زلنا نفتقد مؤسسات وآليات إعداد وتثقيف الكفاءات والكوادر السياسية. ولو أن لدينا- على سبيل المثال- ما يشبه المدرسة الوطنية للإدارة E.N.A فى فرنسا أو غيرها من المعاهد الشبيهة فى دول أخرى التى يتم فيها إعداد وتدريب السياسيين وتثقيفهم إعدادًا جادًا وعميقًا على المستويين النظرى والعملى لكان ذلك أجدى. لدينا فى مصر «معهد إعداد القادة» الذى يراه البعض نموذجًا لمثل هذه المؤسسات، لكن هل يرقى هذا النموذج إلى مستوى المؤسسات الغربية فى المضمون والمنهج والتنظيم؟ أغلب الظن أننا نحتاج إلى تنشيط حياتنا الحزبية لتصبح قادرة على ضخ دماء جديدة كفؤة فى الجسم السياسى للدولة بقدر ما نحتاج إلى إنشاء مؤسسات راقية بالمعايير العالمية لإعداد وتثقيف الكوادر السياسية، وحينما يتحقق ذلك فإننا مدعوون للعودة إلى جامعاتنا والاعتكاف فى مختبراتنا ومكتباتنا. (5) رؤيتان سأله يوسف: وما المشكلة فى أن يشتغل العلماء والمفكرون بالسياسة مثلما اشتغلوا بالعلم والفكر؟ تنهد قائلاً: يخيل لى أن العلم والفكر يفقدان موهبة فى لحظة توهجها ويحرمان من عطاء كان يمكن أن يتواصل. أردف يوسف متسائلاً: وماذا عن السياسة؟ رد فى سرعة: لعلّها كسبت عقولاً علمية منظمة لكن خسارة العلم كانت أكبر! سأله يوسف: وهل ترى من الإنصاف حرمان عالم أو مفكر من الانشغال بالعمل العام؟ رد فى سرعة: كلا. لكن الانشغال بالعمل العام غير الاشتغال بالسياسة! تساءل يوسف متعجبًا: وهل ثمة فارق بين الانشغال والاشتغال؟ رد قائلاً: أجل. ربما كان هو الفارق نفسه بين الاهتمام والمهنة!