نشرت الصحف أنباء تفيد بأن وزير الإعلام سيعيد بث بعض القنوات المحلية علي موجات فضائية.. ولو صحت هذه الأنباء فمعني هذا أن وزير الإعلام يستجيب لنصائح من لا يفقه شيئا في علوم وفنون الإعلام.. وإن تنفيذ هذه الفكرة سيهدر الملايين من أموال اتحاد الإذاعة والتليفزيون، وسيكون في الوقت نفسه دليلاً عملياً علي الجهل المطبق بالأهداف التي من أجلها تطلق «القنوات المحلية». ولا بأس في هذا المجال من التعرض لما أصبح من البدهيات التي يعرفها طلاب السنوات الأولي بكليات ومعاهد الإعلام، لعل في شرح هذه الأهداف ما يلفت انتباه المسئولين باتحاد الإذاعة والتليفزيون إلي خطأ فكرة إطلاق القنوات المحلية علي موجات فضائية. نشأت فكرة الإعلام المتخصص في شئون المحليات لتغطية أخبار وأنشطة ذات طابع محلي ولا ترقي إلي مستوي الخبر أو النشاط الذي يدخل في دائرة الاهتمام العام، بينما يحظي هذا الخبر أو النشاط باهتمام كبير لدي مواطني الإقليم، ولأضرب بعض الأمثلة لتقريب الفكرة لغير المتخصصين. فلو أن مياه الري لم تصل إلي ترعة أو قناة تروي بضع عشرات أو حتي مئات من الأفدنة في إحدي قري محافظة من المحافظات فإن هذا الخبر يحظي باهتمام مواطني هذه القرية ويمثل بالنسبة لهم «مشكلة» محورية، ولو أقيمت مباريات رياضية بين بعض مراكز الشباب في عدد من القري والكفور فإن هذا الحدث يستأثر باهتمام المواطنين بهذه القري والكفور وما جاورها من قري، والأمثلة لمثل هذه الأخبار الممعنة في المحلية والتي تستأثر باهتمام مواطني عدد من القري أو المدن الصغيرة ولا ترقي لمستوي الخبر أو النشاط الذي يثير أدني درجة من الاهتمام علي الصعيد العام، مثل هذه الأخبار والأنشطة هي المادة المحورية لأي إعلام محلي، ويأتي التليفزيون في مقدمة وسائل الإعلام المحلية التي تستطيع أن تقدم الخدمة الإعلامية في هذا المجال بكفاءة تامة. وإطلاق القنوات المحلية علي موجات فضائية سيضع هذه القنوات أمام احتمالين لا ثالث لهما. الاحتمال الأول: حرص القناة علي أن تلتزم بالدور الطبيعي الذي أنشئت القنوات المحلية لأدائه وهو التركيز علي كل ما هو محلي، وهنا لن يقبل المواطنون خارج الإقليم الذي تعني القناة بأخباره، لن يقبل المواطنون علي مشاهدة هذه القنوات، فما بالنا بالمواطنين العرب في مختلف البلاد العربية الذين يستقبلون البث الفضائي، والمواطنين المصريين والعرب في بلاد المهجر، ومعني هذا أن هذه القنوات تبث برامج لا يشاهدها إلا مشاهدوها الطبيعيون من مواطني الإقليم الذين يشاهدونها فعلا علي الموجات الأرضية. الاحتمال الثاني: تتخلي هذه القنوات عن مهامها الطبيعية وتقدم البرامج والأخبار التي تجذب المشاهد في جميع أنحاء الوطن والمواطنين المصريين في بلاد المهجر، وفي هذه الحالة تتحول هذه القنوات المحلية إلي قنوات عامة تضاف إلي القنوات العامة - وما أكثرها - وتحاول أن تنافس القنوات العامة بإمكانات هزيلة لا تمكنها من الصمود في مثل هذه المنافسة غير المتكافئة. وفي هذه الحالة أيضا فإن هذه القنوات ستصبح قنوات تبث في «الهواء» ولا تجد من يشاهدها. وقد سبق أن خاض اتحاد الإذاعة والتليفزيون هذه التجربة الفاشلة عند بدء إطلاق القمر الصناعي المصري الأول، وكان الدافع لذلك إشغال الموجات الفضائية لهذا القمر بدلا من تركها فارغة نظرا لأن الإقبال علي تأجير القنوات الفضائية في تلك الفترة كان ضعيفا، ومنذ فترة تقرر إلغاء بث هذه القنوات علي الموجات الفضائية بعد أن تكاثر الطلب علي تأجير القنوات الفضائية للقمر الصناعي المصري، حتي إن الشركة المصرية للأقمار الصناعية اضطرت لاستئجار قنوات فضائية من أحد الأقمار حتي تتمكن من تلبية الطلبات المتزايدة لتأجير القنوات الفضائية. فهل تواجه شركة الأقمار الصناعية الآن موقفا مماثلا للموقف الذي واجهته يوم إطلاق أول قمر صناعي؟ وهل إطلاق القمر المصري الجديد بقنواته التي تمثل أضعاف عدد القنوات التي كانت متاحة للقمرين الأولين، هل تواجه الشركة فعلا موقفا مماثلا؟، وهل أصبحت لديها قنوات فضائية تزيد علي القنوات المطلوب تأجيرها؟، وهل هذا هو السر في عودة التفكير لاستغلال هذه القنوات الزائدة لبث القنوات المحلية عليها؟ هذا هو الاحتمال الذي قد يبرر العودة لتنفيذ التجربة الفاشلة لبث القنوات المحلية فضائيا، ورغم ذلك فإن هذا الوضع لا يبرر العودة إلي التجربة الفاشلة السابقة، فالأفضل أن تبقي الموجات الفضائية الزائدة دون تحميلها بأي برامج إلي أن يتم تسويقها. وفي هذه الحالة فإننا علي الأقل سنوفر الجهود والأموال التي ستنفق علي «قنوات مسخ» لا هي بالمحلية ولا هي بالقنوات العامة، ولن تستطيع بأي حال أن تعثر علي مشاهدين تتنافس علي جذبهم مئات القنوات العامة والمتخصصة وتتزاحم بكثافة علي الفضاء العربي. الأمر المضحك أن هذه الأخبار نشرت في إطار حديث عن «تطوير» هذه القنوات؟! والتطوير الطبيعي يجب أن يلتزم بالأهداف التي أطلقت هذه القنوات لتحقيقها وهي التوجه بخطابها إلي مواطني الإقليم الذي يغطيه بثها الأرضي، وأن يكون الشأن المحلي هو محور اهتمامها في كل ما تبثه من أخبار أو أي نشاط فني أو ثقافي أو خدمي. فهل يسمع المسئولون، وهل يعيدون التفكير بجدية وموضوعية، أم أنهم سيعيدون فعلا نفس التجربة الفاشلة مرة أخري ويهدرون الملايين من المال العام؟!