منذ بدأ فكري يتبلور.. ووعيي يتمحور.. ورؤيتي تتبأور بدأت أعي جيداً أننا لم نجئ إلي تلك الحياة سوي لنتساءل ونحاول البحث عن إجابات لأسئلتنا.. ومع تزايد الأسئلة بداخل عقلي الصغير بدأت أعي جيداً أن الغموض والالتباس هما الأساس في تلك الحياة وأن «الأسئلة أم إجابات»، أقل بكثير جداً جداً جداً من «الأسئلة اللي هي مش أم إجابات».. ومع مرور السنوات والخبرات والتجارب.. تبدأ بعض الأسئلة في تحوير وتطوير نفسها لتواجهك علي هيئة أسئلة أخري ملائمة أكثر لما مررت به من خبرات.. بينما تهدأ بعض الأسئلة الأخري بعد الحصول علي إجابات مقنعة ومنطقية.. وبينما تظل أسئلة أخري عبثية تطاردك منذ الطفولة وحتي وقتك الحالي بنفس شكلها البسيط.. دون أن تطور نفسها ودون أن تحصل علي إجابة منطقية..علي رأس تلك الأسئلة يأتي هذا السؤال الملتبس الذي وإن رأيتمونه غير ملتبس إلا أني أؤكد لكم أنه ملتبس آخر التباس.. وأراهنكم أنكم لن تجدون له إجابة منطقية واحدة من أي شخص علي ظهر الكوكب.. هذا السؤال الذي يرافقني منذ الطفولة وحتي الآن هو: «ليه الناس بتلبس كرافتات»؟! جميع الملابس التي نعرفها لها مبرراتها المنطقية ذات الصلة بالبيئة والمناخ.. فالجلاليب البيضاء أنسب لحرارة الصحراء وفرو الدببة أنسب لبرودة الإسكيمو.. بينما القميص والبنطلون والتي شيرت والبدلة يناسبون الجميع.. فهي قطع لها مبرراتها المنطقية وتقوم بدورها الموكل إليها كقطع ملابس محترمة لها هدف ووجهة نظر في الحياة ومرجعية تصميمية تعتمد علي الشكل الذي خلق الله به أجسادنا.. أما بقي تلك القطعة الزيادة (اللي هي الكرافتة).. فقد أعيتني الحيلة للبحث عن سبب منطقي واحد يجعل منها سبباً في دخولي حفلة بالمسرح الكبير بالأوبرا من عدمه.. أعيتني الحيلة للتفكير في الهدف من إعطائي كرافتة علي باب المسرح إذا كنت لا أرتدي كرافتة لكي أستطيع الدخول..معقول؟!.. هل يفترض بالبني آدم منا أن يتعامل مع كل هذا العبث واللا منطق بشكل عادي؟! الأغرب أن عظماء العالم وعلماءه ورجاله المهمين وفنانيه ورؤساء دوله ومفكريه وأدبائه وبحكم أن مناسباتهم الرسمية أكثر هم الأكثر ارتداء لتلك القطعة العجيبة من القماش.. علي الرغم من أنهم هم من يجدر بهم أن يسألوا أنفسهم بمنتهي الصراحة.. «إيه القماشة اللي رابطينها حوالين رقبتنا دي.. إيه فايدتها بالظبط»؟! ولكنهم للأسف.. شأنهم شأن الجميع في جميع أنحاء الكرة الأرضية وفي شتي بقاعها.. يرتدون الكرافتة علي سبيل العادة البشرية.. لن تعرف لماذا يرتدونها بالضبط.. ولكنهم يرتدونها وخلاص.. يرتدونها بمنتهي البساطة، لأن الجميع يرتدونها.. من أصغر موظف في أصغر فرع خدمة عملاء في أي شركة اتصالات في أفقر دول العالم..إلي الموظف رقم واحد في العالم.. «أوباما» شخصياً.. الجميع يرتدون الكرافتة.. بدون معرفة سبب منطقي واحد لارتدائها! الجميع يقفون في الصباح أمام المرآة أثناء ارتدائهم لملابسهم.. يغلقون أزرار القميص..ثم يرجعون رءوسهم إلي الوراء ويشدون عروق رقبتهم حتي يتمكنوا من غلق زرار القميص الفوقاني.. ثم يتناولون تلك القماشة الغريبة.. يلفونها حول أعناقهم ويقومون بتلك الحركات الغريبة التي حاولت كثيراً أثناء طفولتي تعلمها عن طريق متابعة أبي أثناء ارتداء ملابسه ولكني فشلت تماماً.. حيث ما هو المنطق في أن أمسك بقطعة القماش الغريبة تلك في يدي.. وأظل ألفها حول رقبتي بتلك الطريقة العجيبة التي يلفونها بها.. من المؤكد أن من يقرأون الآن من هواة الملابس «الفورمال» والكرافتات غير مقتنعين بما أكتبه.. إذن.. فليسمحوا لي أن أطلب منهم طلباً صغيراً.. اخطفوا رجلكوا إلي أقرب مراية، وقفوا أمامها بنية صافية وقلوب طاهرة.. واسألوا أنفسكم بصدق.. «إيه القماشة المدلدلة من رقبتي دي؟! فايدتها إيه بالظبط»؟! إذا كان الواقف أمام المرآة صادقاً في الإجابة.. فهي لن تكون سوي عن طريق إسراعه بفك تلك العقدة القابعة حول رقبته ثم اتباع ذلك الفك للكرافتة بفتح زرار القميص الفوقاني.. لن يكون باقياً بعد هذا سوي أن يفرد ذراعيه بجانبه ثم يتنفس.. يتنفس بعمق.. عندها.. وعندها فقط سوف يستوعب ما أقوله.. عندها فقط سوف يعرف أن الحياة جميلة وبسيطة وغير محتاجة علي الإطلاق إلي كل تلك العقد والكرافتات حول رقابكم.. فالحياة أبسط.. أبسط بكثير! في هذا الصدد.. أعتقد أنه لو حصل وجاء إلينا طبق طائر استكشافي من المريخ مثلاً.. سوف يعود قائده إلي كوكبه بعد زيارة «الأرض» ليكتب في تقريره «لكشة كلام مثل تلك».. «إن الأرض حقاً كوكب غريب..يخنق فيه سكانه أنفسهم بأنفسهم كل صباح باستخدام قطع طولية غريبة من القماش يطلقون عليها عند كتابتها، (ربطة عنق) بينما ينطقونها (كرافتة).. وعلي الرغم من كل المعلومات والداتا التي قمنا بتجميعها عن كوكب الأرض.. وبالرغم من كل الأسرار التي اكتشفناها.. وكل الأسئلة التي أجبنا عنها فإننا مازلنا غير قادرين علي مواجهة أهم لغزين غامضين علي ظهر كوكب الأرض.. ألا وهما.. إزاي البشر بنوا الأهرامات؟! وليه بيلبسوا كرافتات؟!