نقرأ ما يقوله «روتستين» في كتابه «خراب مصر» عن حوادث الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فنفهم ما نراه في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، وندرك أن أكاذيب بوش وبلير وأوباما وباول وتشيني ورامسفيلد.. إلخ ليست إلا جزءاً من تراث يواصل ساسة الغرب التمسك به والإضافة إليه. ولا يدهشنا أن نجد «روتستين» المنقب عن الحقيقة، يفتتح حديثه الصريح عن الكذابين مسنداً إليهم صفة «الغدر»، ثم يختمه وقد وصفهم ب«السفالة». يقول «روتستين»: إن وزير خارجية بريطانيا «اللورد دربي» باغت «الخديو إسماعيل» في 20 من مارس 1876 بعزمه علي نشر تقرير «مستر كيف» عن مالية مصر. ويعلق قائلا: «تلك غدرة ليس لها من مثيل. لقد أذن للمستر كيف بالتنقيب في إدارة مصر وماليتها علي فكرة (أي علي أساس) أن تقريره سيظل سراً مكتوماً بين الخديو والحكومة البريطانية.. وقد احتج إسماعيل بطبيعة الحال علي نشر التقرير أشد احتجاج.. وأصغت الحكومة البريطانية إلي احتجاجه هذا ورجعت عن عزمها، ولكنها عملت ما هو أدهي وأمر. وذلك أنه عندما سئل المستر دزرائيلي في البرلمان عن موعد نشر تقرير المستر كيف، لم يجب بأن التقرير وضع علي ألا ينشر، بل قال: إنه لا يمانع أبدا في نشره، ولكن الخديو يعارض في ذلك أشد المعارضة. فكان هذا القول تلميحا ظاهرا إلي أن تقرير المستر كيف تقرير غير حسن. وقد ظهر أثر ذلك القول علي الفور، إذ هوت أسعار السندات المصرية، واشتد البلاء. فلما رأي الخديو حرج موقفه، سمح بنشر التقرير بعد عشرة أيام من تصريح المستر دزرائيلي قائلا: إنه لم ير التقرير، ولكنه يرغب في نشره لثقته بأن المستر كيف قد قرر الحقيقة، ولعلمه أن نشره يبدد شكوك الجمهور الخاطئة. ولكن سبق السيف العزل؛ فمع أن تقرير المستر كيف لم يكن من الرداءة بالمنزلة التي أشار إليها المستر دزرائيلي، فقد أبي الجمهور أن يحسن الظن بمالية مصر. وكان كل تعليق إسماعيل المسكين علي هذه الفعلة الحقيرة التي أتتها الحكومة البريطانية أن قال: لقد احتفروا لي القبر. ولم يسع المستر كيف نفسه إلا أن يعترف بأن: بعثته قد أقفلت باب السوق المالية أمام الخديو بدلاً من أن تساعده علي الاقتراض». هكذا أدار رئيس وزراء بريطانيا «بنيامين دزرائيلي» مؤامرته ضد مصر، وهو النهج نفسه الذي يدير به الاستعمار مؤامراته ضدنا طوال الوقت، والفرق الأساسي بين عقليتنا وعقليته أنه يضع عدة خطط للوصول إلي الهدف نفسه، مراعياً أن يكون فشل إحداها تمهيداً لنجاح الأخري. بينما كنا ومازلنا نعتبر كل المواقف نهائية، وكل الخيارات استراتيجية، وهل هناك «بلاهة» أشد من إعلان الالتزام بالامتناع عن خوض أي حرب، حيث «حرب أكتوبر آخر الحروب»، مع تعزيز تلك «البلاهة» بأخري أشد منها تعلن «التمسك بالسلام خياراً استراتيجياً»؟ أليس في هذين الموقفين وحدهما دعوة مفتوحة لأي «آخر» حتي ولو لم يكن خصما ولا عدواً أن يضربنا بأقصي ما لديه من قوة، مطمئنا إلي أن «أكتوبر» مضي حاملا معه آخر الحروب، وأننا مقيمون علي «السلام» وإن صفعت الأقفية، وانتهكت الحرمات؟ ثم إنهما ليسا موقفين وحيدين، ولا ما يعكسانه خاص بالأنظمة والحكومات، لكنه في الأساس سلوك شعب، يفقد حياته وأمنه، مستقبله وأمله، ينهب عيني عينك، ويعذب علي الملأ وأمام شهود، ثم يظل متمسكا باستكانته لنظام، يظل هو الآخر ملتزما بخنوعه أمام الدول الاستعمارية، ولعل هذا «التماهي» هو سر استقرار أنظمة كتلك، علي كراسي حكم شعوب كهذه. «دزرائيلي» ولاحظ أرسل «مستر كيف» ليؤدي دور المراقب، فلما نجح «الخديو» في إبعاده، حتي قبل أن يتمكن من رصد ما يصلح لابتزاز مصر، لم يضع «دزرائيلي» يده علي خده معترفا بفشله، ولم يبادر إلي إظهار تقرير «كيف» لأنه يعلم قبل غيره أنه لا قيمة له ولا جديد فيه. لكن الخبيث الكذاب «دزرائيلي» عرف أن «التلويح» بالتقرير سلاح أمضي من التقرير نفسه، وهو سلاح لم يطعن ثقة الناس في مالية مصر فحسب، بل أجبر «الخديو إسماعيل» علي أن يعلن «ثقته بأن المستر كيف قد قرر الحقيقة» ليحرم نفسه فرصة تصحيح ما جاء في تقرير، كان «إسماعيل» أول من يعلم أنه مغرض، لكنه وجد نفسه مضطراً للاستجارة بنار الغرض، هرباً من رمضاء التهويل الذي شنه «دزرائيلي» حربا متصلة، ولم يفطن «إسماعيل» المسكين كما وصفه «روتستين» إلي الحقيقة، في جانب منها، إلا بعد أن وقعت الواقعة. انتبه إلي أن «دزرائيلي» حفر له القبر، لكنه لم ينتبه إلي أنه سعي بنفسه إلي القبر بقدمين متسرعتين، وعينين عمياوتين. يقول «روتستين»: «ولم يكن أمام إسماعيل باشا وقتئذ إلا أن يعلن إفلاسه، وذلك الذي كان». أفلست مصر إذاً. ثم، وإزاء غدر الإنجليز، قبل «إسماعيل» المشروع الفرنسي بإنشاء صندوق الدين العمومي، وتحويل جميع الديون الثابتة والسائرة إلي دين موحد فائدته 7% ويستهلك في 65 سنة. ويعلق «روتستين» قائلا: «لقد كان هذا تصرفا حسنا، حسنا للدائنين لا للمصرين، الذين حملوا فائدة يعجزون عن حملها، قدرها 7%». وكان بدهيا أن تبادر إنجلترا إلي التدخل، وهي تري فرنسا توشك أن تنفرد بمصر دونها. وفي هذا الصدد، عهد الإنجليز إلي «المستر جوشن» بالسفر إلي باريس لمفاوضة الجانب الفرنسي، باسم حملة السندات الإنجليز رسميا، مع تمثيله مصالح إنجلترا السياسية بصورة غير رسمية. وفي أكتوبر 1876 أقام «جوشن» حفلة وداع بين دائني مصر، قبل أن يسافر إليها، وظاهر أمره أنه مندوب خاص يمثل ألفين من حملة السندات البريطانيين. وقال المتحدث باسم الحكومة البريطانية في مجلس العموم: إن حكومته ساعدت «المستر جوشن» وأتباعه «بعض المساعدة كما تقضي عليها اللياقة بمساعدة أي إنجليزي يغترب عن بلاده، ولكنهم في مهمتهم إنما يعملون علي عهدتهم». ولا يطيق «روتستين» صبرا، بل يفضح هذا الهراء قائلا: «هذه بالطبع إحدي الأكاذيب التي كثيرا ما يستجيزها الوزراء للمنفعة العامة، أما الحقيقة فهي أن الحكومة الإنجليزية لم تكتف بالمساعدة «المعتادة» للمستر جوشن، بل تقدمت إلي قنصلها العام بالقاهرة، في أن يُفْهِمَ إسماعيل أقدار الرجال الذين سيعمل معهم، وألا ينسي أن يذكر له أن المستر جوشن وزير قديم من رتبة أعضاء مجلس الوزراء، وأنه لا شك عائد إلي كرسي الوزارة يوما ما، والواقع أن المستر جوشن كان أبعد ما يكون عن تولي المفاوضات علي عهدته، وأن القنصل البريطاني العام كان يساعده في جميع الأمور أكبر مساعدة فعلية. وكان هذا بالطبع تنفيذا للخطة التي رسمت من قبل، ولا صلة بينه وبين أمور اللياقة». وعند هذا الحد من سرد الوقائع، وقد باتت تفاصيل هذا الجانب من المؤامرة علي مصر شديدة الوضوح، نري «روتستين» يفتح قوسا، ليوضح جانبا آخر، كان ومازال بالغ الأثر بلادنا، ولا عجب أن الأقلام مازالت تتناوله بالتزوير المتعمد لإخفاء حقيقته، علي الرغم من وضوح ما جري بأشخاصه وأحداثه. حيث يقول «روتستين»: «ثم يقوم ضرب سافل من التلاعب بالمساومة من جهة، والوعيد من جهة أخري، يسفر عن مأساة غامضة، كان إسماعيل أكبر ممثليها، ولكن واضعيها الحقيقيين لا يزالون حتي اليوم محتجبين لا يجرءون علي الظهور». أما المأساة، فهي اغتيال «إسماعيل باشا صديق» المعروف ب«المفتش». وأما وصفها بالغموض، فلا يعني أن حقائقها خافية، بل هي مجرد إقرار بما أثير حول هذه الحقائق من لغط مازال يثار بهدف التعتيم عليها. وأما المتهمون المحتجبون، فيكشفهم «روتستين» بأدلة قوية، ويمنحنا الفرصة لنكتشف معهم هؤلاء الذين يواصلون التآمر علي دم «المفتش»، وذاكرة مصر، والأهم أنهم يواصلون التآمر علي حاضر الوطن ومستقبله.