القلعة تقتحم دائما من الداخل، هذه هي الحقيقة التي يوقفنا عليها «روتستين» في كتابه «خراب مصر»، حيث لا ينسي الكاتب والمؤرخ الفذ، وهو يسرد الكثير عن ضربات الخارج، أن يولي اهتماما خاصا لمؤامرات الداخل، باعتبارها عاملاً حاسماً لولاه لصمدت مصر علي الأرجح ولما تمكنت كل ضربات الخارج من أن تسقطها في قبضة الاحتلال، الذي آل بها إلي ما هي عليه الآن: سمكة محتضرة علي حافة نهر جاف! وما لا شك فيه أن قتل «إسماعيل صديق» المعروف بالمفتش، فتح ثغرة أساسية نفذ منها المشروع الاستعماري. وفي هذا يقول «روتستين» كاشفا سرا مهما، وملوحا باسم حرص الجميع علي إخفاء دوره: «لقد كان لبطرس باشا أي بطرس غالي رئيس الوزراء (النظار) الذي قتله الشاب الوطني الورداني ناصف سجل خدمة طويلة منذ سنة 1876، أي منذ صحب إسماعيل صديق المفتش المقتول، بصفة كونه كاتب سره، إلي باب النظارة في ذلك اليوم المشئوم الذي اختطف فيه الرجل (اليوم أُخِذَ فيه إسماعيل صديق ليُقتَل) ولقد تقلب (بطرس غالي) في المناصب الإدارية المختلفة، وكان مفيداً جداً للجنة الدولية في أعمالها السيئة القبيحة، ثم صار فيما بعد، أي في عهد اللورد كرومر، ناظرا للمالية فناظرا للخارجية. وأخيراً نصبه السير ألدون جورست في سنة 1907 رئيسا للنظار..... ولكن بطرس للأسف كان معروفا بأنه أداة للإنجليز، وأنه ترأس فيما مضي قضية دنشواي أبدية الذكري وباشر إجراءاتها، ولئن بقي بأذهان الوطنيين شيء من الشك في كيف يسلك بطرس في منصبه الجديد، فذلك الشك لم يلبث أن تبدد بإعادة قانون المطبوعات تحت إشرافه، وبالأحكام والاضطهادات التي تلت ذلك القانون، وأخيراً بالاندفاع في مشروع امتياز قناة السويس. من أجل ذلك كان بطرس في نظر الوطنيين مذنباً من جهتين: من جهة أنه الموجد فعلا لهذه النظم الرجعية، ومن جهة أنه خائن لأمته». هذا ما يقوله «روتستين» عن «بطرس باشا غالي» الذي يشير صراحة إلي أنه «تقلب في المناصب» منذ صحب «إسماعيل صديق» وهو يقطع خطواته الأخيرة نحو الموت، ليصبح بعد قليل وزيرا للمالية بدلاً منه، وحتي نهاية حياته، فماذا عن الديون التي يقال إن «إسماعيل صديق» لم يبال بأن تغرق مصر فيها، مع اتهامه بالجشع، وموافقة «الخديو إسماعيل» فيما يضر بالبلاد، والإشارة إلي قسوته وثرائه الفاحش؟ ماذا عن هذه الديون؟ وما حقيقة التورط فيها؟ سؤال يجيب عنه «روتستين» بوثيقة هي شهادة المستر «كيف» رئيس الصيارفة الإنجليز، الذي سبق أن أرسله وزير الخارجية «اللورد دربي» إلي مصر علي رأس بعثة للتحكم في ماليتها، وهي البعثة التي أفشلها «إسماعيل» لكن رئيس وزراء بريطانيا «دزرائيلي» ابن اليهودي، تمكن برغم هذا من استغلال تقرير «خائب» للبعثة في التعجيل بإشهار إفلاس مصر، ووضع «الخديو» علي شفير القبر. الوثيقة التي يستند إليها «روتستين» هي الصفحة السادسة من تقرير «كيف»، التقرير نفسه الذي استغل ضد مصر، برغم قوله صراحة عن أزمة ديون مصر إنها «قد ترجع كلها تقريباً إلي الشروط الموبقة التي عقدت بها قروضاًَ لسد حاجات ماسة، جلبتها أحيانا ظروف خارجة عن سلطة الخديو». ما يعني أن المشكلة كانت في شروط القروض وفوائدها التي فرضتها القوي الاستعمارية بنفوذها السياسي وقوتها العسكرية، وليس الأمر أمر إسراف الخديو، ولا هو جشع المفتش. أما ما ينسب إلي هذا الأخير من قسوة، فزعم يبعث علي الضحك المر لشدة ما فيه من مغالطة، إذ اتهام «باشا» من ذلك الزمان بالقسوة، يشبه اتهام فلاح معاصر له بأنه كان «يستحم في الترعة»! ووجه المغالطة الواضح في الاتهامين هو شيوعهما لدرجة تجعل كلا منهما «ظاهرة عامة» لا «اتهاما». إذ لم يكن هناك تقريبا فلاح لا يستحم، أو يتوضأ، أو يشرب من مياه الترعة، ولا كان هناك «باشا» يعجز عن استخدام السوط والعصا ضد فلاحيه أو موظفيه أو أتباعه كلما أراد، وإن كان بعضهم كان يتورع عن الإسراف في استعمال القسوة، وقد ظلت «الفلقة» حتي عهد قريب أداة من الأدوات الرسمية للشرطة، وكانت تعلق في مدخل المراكز والأقسام، مع القيود الحديدية، وغيرها من الأدوات المصرح بها، هذا ما يفرضه المنطق بشأن اتهام «إسماعيل صديق» بالقسوة، أما «روتستين» فيقول إنه اتهام روجه أعداء مصر من أصدقاء المستر جوشن (المراقب البريطاني لمالية مصر) وحملة السندات (أي دائني مصر)، صوروه مثالا للباشا الشرقي، فقالوا: إنه رجل فاقد الضمير، غليظ القلب خوان متعصب، قد لا يكون إسماعيل صديق من الخسة بحيث أنزله (أي كما صوره) الذين كان يقف بينهم وبين أغراضهم السافلة، ومهما يكن من أمر فإن موقفه وقتئذ (الرافض لشروط بريطانيا وفرنسا بشأن فوائد الديون وكيفية تحصيلها) كان الموقف الحق من جميع الوجوه، كان يقول إنه إذا وصل الأمر إلي اتفاق مع الدائنين، فمنتهي السفاهة أن يكون أساس الاتفاق تحديد قيمة الفائدة ب 7%، فإن 5% هي أقصي ما تستطيع مصر دفعه من غير أن تجر علي نفسها الخراب، وأما الرضا بوضع رقابة علي المالية، هي في الواقع رقابة علي الإدارة، فكان في رأيه محض سعي لإسلام البلد للأجانب، وهو أمر لا يختلف عن الخيانة العظمي في شيء وأضيف: ولا يختلف عما يحدث لمصر منذ 1974 حتي اليوم في شيء! كانت بريطانيا تسمي مسعاها لوضع مالية مصر في قبضتها «المشروع الجديد». وينقل «روتستين» عن مراسل «التايمز» في الإسكندرية تقريرا كتب فيه: «ينبغي أن نعترف بأن المشروع الجديد سيقبض من سلطة الخديو المطلقة... ولكن الحزب الذي استفاد كثيرا من النظام القديم قوي جدا، وزعيمه ناظر المالية (إسماعيل صديق) شديد السلطان علي عقل مولاه». يقول «روتستين»: «كان التخلص من ناظر المالية، والحال هذه، يكاد يكون مسألة حياة أو موت لحماة النظام الجديد»، ثم ينقل عن مراسل «التايمز» ما نشره في 13 من نوفمبر 1876، أي بعد 3 أيام من اختفاء المفتش، أو بالأحري بعد 3 أيام من قتله: «سواء كان سقوطه خطأ أو صوابا فهو أمر يُحرَصُ عليه حرصا شديدا»، ويعلق «روتستين»: «طير مراسلو الصحف إلي بلادهم نبأ سقوط «عدو الإصلاح» الممقوت، وكتب القنصل العام إلي الحكومة يقول: «لقد قوي الأمل كثيراً في نجاح بعثة المستر جوشن والمسيو جوبير (المراقبين الماليين) عقب سقوط ناظر المالية السابق؛ لقد ظل تحقيق هذا الأمل بضعة أيام معلقاً بين اليأس والرجاء لعداء ذلك الناظر ودسائسه» فلما بلغ نبأ هذه المخزاة مسامع القوم لم ترتفع منهم صيحة استشناع واستنكار، كما أن الذين نصبوا أنفسهم فيما بعد لكشف مساوئ الخديو لم يهتموا بالحادثة كثيرا وطووا عنها كشحا، مع أنهم لم يغادروا في خلق إسماعيل أدني مغمز إلا أظهروه وأثبتوه، لا بل حدث ما هو عكس ذلك، فإنه لم يكد ينمي هذا الخبر السار إلي بورصة الإسكندرية حتي ارتفعت السندات المصرية ثلاث نقاط في ساعة ونصف الساعة. وكتب مراسل «التايمز» إلي جريدته جذلاً مسرورا يقول: «إنه يعد خاتمة نظام عتيق.. لقد كان إسماعيل صديق زعيم حزب يقاوم النفوذ الأوروبي وكل تقدم للمدنية في البلاد.. إن سقوط المفتش الذي يقال إنه كان أعد مشروعاً معارضاً ليعد من أقوي دواعي النجاح» والحق أنه لم يمض علي وقوع تلك المخزاة أسبوع واحد، حتي أعلن إسماعيل إلي جوشن وجوبير قبوله مشروعهما، وأصبحت «المدنية» في وادي النيل أمرا مقضياً، ثم ظهرت إنجلترا وفرنسا يتقدمهما الدائنون مظهر المخلصين الأوفياء، كأن لم يعتمدوا في الوصول إلي هذا المظهر علي جثة تلطخت ثيابهم بدمائها. ألا نعمت الحادثة بداية لحكم قام علي العنف، وبالعنف نما، وبالعنف تغلب أخيرا علي الصعاب». هذا ما كتبه «روتستين» وهو واضح جدا. نقرأ في سطوره أن الاستعمار وعملاءه قتلوا «إسماعيل صديق» بقرينتين: *الأولي: أن المفتش اختفي في 10 من نوفمبر 1876، والخديو استسلم لشروط الاستعمار في 18 من نوفمبر، أي بعد ثمانية أيام. * الأخري: أن الاستعمار وعملاءه تستروا علي جريمة قتل المفتش عند وقوعها، ثم واصلوا التستر عليها حتي بعد عزل الخديو إسماعيل، الذي لم يتركوا نقيصة إلا وألصقوها به، لكنهم لم يذكروا شيئاً عن جريمة قتل المفتش، مع أنها تشينه؛ وما ذلك إلا لأن دورهم فيها أكبر من دور الخديو، ولأن فضح العملاء الذين كانوا يواصلون أداء أدوارهم في التآمر علي مصر كان بالنسبة للاستعمار يشكل خسارة أكبر. أما ما نقرؤه بين السطور، فبعضه أن الاستعمار «الأنجلو أمريكي» هو الصانع الحقيقي لنظام «حكم قام علي العنف، وبالعنف نما»!