مقدمة لا بد منها: ولستَ قتيل نظامٍ يُكَشِّفُ عن عورتيه فقط بل قتيل الجميع. هذا المقال مهدي إلي روح الشهيد «خالد سعيد» الذي قتله خدم ورثة الانهيار، وتستر علي قتله عملاء، باقون فقط لأن الاستعمار يبقيهم في فمه، قبل أن يبصقهم. .......... يقسم «روتستين» كتابه «خراب مصر» إلي أربعة أبواب، مختتما عناوين أول ثلاثة منها باسم «مصر»، كأنه حرف الندبة أو عويل الرياح بين أطلال دولتنا: انتهاب مصر، احتلال مصر، إدارة مصر. ثم الباب الرابع: ثلاث سنين من عهد جديد (أي عهد ما بعد اللورد كرومر) ويختتم الكتاب بتذييل، هو «تقرير مقدم من اللجنة المشكلة لنظر مشروع مد امتياز شركة قناة السويس إلي هيئة الجمعية العمومية». وفي ملحوظة إحصائية ذات دلالة، فإن الباب الأول «انتهاب مصر» هو أطول الأبواب، سواء من حيث عدد صفحاته، أم من حيث عدد فصوله، البالغ ثمانية فصول، عنوان أولها «بداية الاعتداء»، وهو فصل نقرؤه، فكأن مائة وخمسين عاما لم تمر من عمر الزمان، وكأننا نري عصرنا لا عصر «إسماعيل» موضوعا أمام مرآة تجلوه، أو معروضا عبر جهاز للكشف بالأشعة. حيث «الخديو» يتلقي الضربات القاصمة لشخصه وعرشه وسلامة بلاده من القوة الاستعمارية الأكبر (بريطانيا آنذاك) وبرغم وعيه التام بطبيعة هذه الضربات، بل برغم أن الغدر والتآمر فيها كانا أوضح من أن يحتاجا إلي شرح، فإنه ظل مصرا علي المناورة، جبانا عن المواجهة، مستسلما كالذبيحة، أو ك«الولايا» اللائي لا يملكن إلا شكوي الزمان، أو شتم عدوهن في «أشجع» الأحوال، ثم إنهن يواظبن بعد ذلك علي الانقياد للعدو وهو يسوقهن إلي النهاية. هذا ما تفعله الذبائح و«الولايا»، وهذا ما فعله «الخديو» الذي كان مطمئنا ربما إلي أنه سيكون آخر من يتزعزع مركزه في مصر، والذي نراه فكأننا نري حاضرنا، خاصة وهو يريد لرجاله، ثم للوطنيين، أن يقاتلوا عنه معركة لا يجبن عن خوضها فحسب، ولا هو يكتفي بنذالة التخلي عمن خاضوها بدلا منه، لكنه فوق هذا وذاك، ينوب عن العدو (عدوه وعدوهم) في الإجهاز علي من تصدوا للعدو، ولو دفاعا عنه! وقبل الاسترسال فإن الإنصاف يفرض الإقرار بأن «الخديو إسماعيل» في شخصه وفي نظامه، أفضل بكثير من أن نقارنه بما لدينا الآن، ومع ذلك فقد انتهي به الأمر منفيا، يتوق إلي أن يمر بمصر مجرد مرور، فلا يسمح له بما يسمح به للسياح العابرين. وانتهي الأمر بدولته إلي الاحتلال الصريح. يقول «روتستين» إن مصر كانت بغير جدال أكثر بلاد الشرق رخاء علي عهد «سعيد باشا»، حيث «بلغت حاجات المعيشة من الرخص حدا لا يتصوره العقل، حتي كانت أجرة العامل اليومية العادية، وهي قرش واحد، تقوم عن سعة بحاجة أسرة قروية بأسرها». وفي الهامش يشرح «روتستين» أن القرش كان يساوي بنسين ونصف البنس، أي أن جنيهين مصريين كانا يشتريان خمسة جنيهات استرلينية، أما اليوم فإن خمسة جنيهات إسترلينية تساوي 34 جنيها مصريا، ما يعني أن الجنيه المصري حسابيا خسر أكثر من 94% من قيمته، ولو تذكرنا أن الجنيه الاسترليني علي عهد «سعيد باشا» كان عملة الإمبراطورية البريطانية التي لا تغرب عنها الشمس، وأقوي دول العالم سياسيا وعسكريا، وأن عملتنا كانت أقوي منه بمرتين ونصف المرة، لأدركنا أن الخسارة أكبر من 94%. ثم لنلتفت إلي أن الانهيار تواصل بشكل عام منذ عصر إسماعيل وإلي اليوم، صحيح أن الانهيار في عهد «مبارك» لا مثيل لسرعته وعمومه، لكنه من حيث المبدأ قائم طوال الوقت. يقول «روتستين» إن بداية حكم «إسماعيل باشا» في العام 1863، كانت إيذانا بتغير جديد، إذ وافقت عصر البذخ والترف في فرنسا وقد بلغت آنذاك ذروة الحضارة الأوروبية تحت حكم «الإمبراطور نابليون الثالث»، الذي اتخذه «إسماعيل» نموذجا يحتذي. ولما كان الإسراف يقتضي المال بطبيعة الحال، وكانت أسعار القطن قد انخفضت (ما قلل موارد مصر) فقد اضطر «إسماعيل» إلي الاستدانة، خاصة من لندن، حيث كان دائما يجد مصرف «فرهلنج وجوشن» مستعدا لإقراضه ما يحتاج إليه. وهنا نشير إلي أن «اللورد جوشن» رئيس هذا المصرف والشريك فيه، ووزير خزانة بريطانيا في حكومة حزب الأحرار (1887 1892) وعضو البرلمان عدة مرات بين عامي 1863 1890، هو نفسه «جوشن» الذي جاء إلي مصر في أكتوبر سنة 1876، ليفرض علي «إسماعيل» إنشاء «صندوق الدين» تحت إدارة مراقبين ماليين، يمثلان «حملة السندات» أحدهما بريطاني هو «جوشن» نفسه والآخر فرنسي، هو «جوبير». وقد أذعن «إسماعيل» وأصدر في 18 من نوفمبر 1876 مرسوما بإنشاء هذا الصندوق، الذي لم يكن إلا احتلالا اقتصاديا صريحا، ومقدمة مباشرة للاحتلال العسكري الذي لم يتأخر كثيرا. يقول «روتستين» إنه لم يدخل عام 1868، أي قبل أن تمضي 5 سنوات علي ولاية «إسماعيل» حتي كان قد أثقل كاهله بديون متنوعة المصادر، تبلغ خمسة وعشرين مليونا وخمسمائة ألف جنيه، وتتراوح فائدتها الاسمية بين 7 و 12% وفائدتها الحقيقية بين 12و 26%. هذه الديون أفزعت الحكومة العثمانية، وجعلتها تحظر علي «إسماعيل» أن يعقد أي قرض جديد، ومع ذلك اقترض في العام 1870 أكثر من 7 ملايين جنيه بفائدة تزيد علي 13%، ما جعل السلطان العثماني يكتب إلي الحكومة الإنجليزية رأسا أنه يحتج مقدما علي كل اتفاق مالي يمس دخل مصر، ولا يقره السلطان. ويشير «روتستين» إلي أن هذا الخطاب كان بداية «الطور الأول من أطوار مسئولية انجلترا نحو مصر» أي بداية التدخل الاستعماري السافر. حيث كانت السياسة الإنجليزية قبل ذلك، وطوال القرن التاسع عشر، تقف مع السلطان العثماني ضد الاستقلال الذي تنسبه مصر لنفسها من حين لآخر بتشجيع فرنسا، التي كان ساستها يمنون أنفسهم، بإمكان بسط الحماية الفرنسية علي مصر ذات يوم عبر «التدخل السلمي»، بفضل نفوذ بلادهم الأدبي في مصر، المتمثل في المستشارين الفرنسيين للولاة، وتفرنس طبقة الحكام والموسرين علي مر الزمن. وحرصا منها علي منع تنامي النفوذ الفرنسي في مصر، كانت إنجلترا تدعم موقف السلطان العثماني في مصر. لكن هذا الدعم تبخر فورا حين تعارض مع مصالح الدائنين (ومعظمهم يهود) ومع الفرصة السانحة لاحتلال مصر، ولهذا لم تستجب الخارجية البريطانية لنداء السلطان. ومن ناحية أخري تمكن «إسماعيل» بالرشوة للصدر الأعظم ثم للسلطان من الحصول علي إذن بعقد قرض جديد قيمته 32 مليون جنيه، مع استصدار فرمان يطلق يده في جميع شئون مصر من ديون وعقود ومنح امتيازات. وبهذا الفرمان كما يقول «روتستين» «استحال، دفعة واحدة، ما كان من قبل دينا شخصيا علي «الخديو» إلي دين علي الحكومة المصرية..... بتغاضي إنجلترا إن لم يكن بتشجيعها». وفي 25 من نوفمبر 1875، قام رئيس وزراء بريطانيا «دزرائيلي» ابن المؤرخ اليهودي الإيطالي «إيزاك دزرائيلي» بشراء حصة مصر في قناة السويس، التي اضطر «إسماعيل» لبيعها تحت وطأة دين كانت الحكومة البريطانية أول من يعمل علي زيادته. اشتري «دزرائيلي» حصة مصر، وهي 44% من أسهم القناة، نظير 4 ملايين جنيه، حصل عليها بتمويل من مصرف «آل روتشيلد»، وهم طبعا يهود! كانوا يعرفون أنهم يمولون احتلال مصر، لا مجرد شراء أسهم في إحدي شركاتها، وهو الاحتلال الذي كان مقدمة ضرورية، بل المقدمة الأساسية، لاحتلال فلسطين، ثم الترتيب حسبما نري اليوم من خطوات لإعلان ما يسمونه «إسرائيل الكبري». كانت صفقة القناة في ظاهرها خروجا علي المبادئ المتبعة، وفي جوهرها خطوة استعمارية، كما كتبت آنذاك صحيفة «ذا تايمز» تقول: «إن الجمهور في هذا البلد وغيره سينظر إلي هذا العمل الخطير الذي قامت به الحكومة الإنجليزية من نواحيه السياسية لا التجارية. سيعده مظاهرة وشيئا أكثر من مظاهرة، سيعده إعلانا لنياتنا وشروعا في العمل علي تحقيقها. من المستحيل أن نفكر في شراء أسهم قناة السويس منفصلا عن علاقة إنجلترا المستقبلة بمصر، أو أن نفكر في مصير مصر منفصلا عما يحوم حول الدولة العثمانية من المخاوف.... فلو أدت القلاقل أو الاعتداء الخارجي أو فساد الإدارة الداخلي إلي انهيار الدولة العثمانية ماليا أو سياسيا، فقد نضطر إلي أن نحتاط للمحافظة علي سلامة ذلك الجزء من أملاك السلطان الذي تربطنا به علاقة قوية». ويعلق «روتستين» علي هذه الفقرة قائلا: «تلك هي الصراحة بعينها. وما أكبر الفرق بين هذا القول ما يقوله الاحتلاليون المتأخرون الذين يجهدون في إظهار التدخل البريطاني مظهر «قضاء مبرم» ودفع حتي النهاية ولم يذعن له إلا بحكم ضرورة قاهرة، وحوادث كان يستحيل أن يحسب لها قبل وقوعها حساب».