شتاء 1993، الرحلة المعتادة مع الرفاق بعد المدرسة، لا بد وأنك تذكر هذا اليوم جيدًا، بائع الجرائد الذى لم يفهم أبدًا لماذا تتهلل أساريرك فجأة وتتراقص نشوة مجنونة فى عينيك، لكنه يتراجع عن التشكك فى أمرك عندما تنفحه كل ما فى جيوبك من نقود وتنقض على تلك الكُتيبات الملونة المسحورة. وما سرها؟ لا شىء سوى شعار (روايات مصرية للجيب) على الغلاف الأمامى، واسم د.نبيل فاروق على الغلاف الخلفى. أدهم صبرى يفتك بالأوغاد، نور وفريقه يقهرون المجرة، بطاقة نديم فوزى الذهبية، منوعات زووم، معارك فارس الأندلس، نباهة عماد وعلا. دقة القلب المنعشة وأنت تقرأ اسم (العدد القادم). هناك دائما الوعد بعدد قادم، ورجل أسطورى مهيب تخلى عن رونق الطب ببساطة ولم يهتم كثيرًا بمكانة ما يكتبه فى الأوساط المتجهمة، وباختصار: سلّم نفسه لنا، فسلمنا أنفسنا له! نعم. يجب أن يُذكر اسمه بوضوح، ومعه العظيم الراحل حمدى مصطفى، قبل الحديث عن أدب البوب أرت فى مصر والوطن العربى بالكامل. فضل الرجل على ما لا حصر له من أرباب القلم الشبّان، بدءًا من طالب ثانوى حالم يقص صفحات كراسته لتحاكى قطع روايات الجيب ويجرّب الكتابة، مرورًا بثلاثة أرباع المؤلفين الذين تجد أسماؤهم فى قائمة الأعلى مبيعًا، وحتى أحمد مراد النشيط المجتهد. يحق لك النسيان، لكن النكران قلة أصل ورعونة لا شك فيها! فى هذا العام، بين كنزنا المبهج، ومع صدور عدد الصيف (الزهرة السوداء)، وجدنا هذا العنوان (أسطورة مصاص الدماء والرجل الذئب) والمؤلف اسمه د.أحمد خالد توفيق. تبتاع الرواية لأنك تتحمس لكل إصدارات المؤسسة العربية الحديثة، بينما أصحابك تبدو عليهم ريبة مفهومة البواعث، فهذه خيانة للكاهن الأكبر، كما أن تجاربنا المؤسفة مع الذين حاولوا تقليده أكّدت مكانته الخطيرة. وتحت هذا الضوء قُرئت أول أعداد سلسلة «ما وراء الطبيعة» بحذر لا يخلو من تصيّد للأخطاء، لا بد وأنها لن تروقك ما دامت صفحاتها لا تحمل -من النظرة الأولى- نسق نبيل فاروق الشهير. لكن سرعان ما دعّم العدد الثانى (أسطورة النداهة) موقف المؤلف الجديد. هذه نكهة جديدة ومذاق مختلف لا يمكن تجاهله، على الرغم من ذلك تربّص البعض للأعداد التالية: (وحش البحيرة، لا بأس بها ولكن ما هذا الجو الإنجليزى البارد؟) (آكل البشر.. ممم.. جميلة، ما العدد القادم؟).. أسطورة الموتى الأحياء ختمت هذا الموسم برصيد معقول للرجل، وعندما صدرت له روايتا (رأس ميدوسا) و(حارس الكهف) فى معرض الكتاب استحق عن جدارة أن تُفتش عن أعداده بالاسم وتسأل عن موعد صدورها وتعتز باقتنائها مع رزمة الروايات التى حفظت معالمها وأدمنت رائحة أوراقها. فى ما بعد سوف يقدم سلسلته الثانية (فانتازيا) وبطلتها هى عبير عبد الرحمن التى قرأت كل شىء لكنها نسيته فأتاها المرشد بجنة الخيال، تلتها سلسلة (سافارى) وتحية خاصة لقرائه من الأطباء اليائسين فى بلدنا السعيد، وتناثرت مقالاته وقصصه هنا وهناك. ما موضوعها؟ مانديلا، مسألة طبية، فيلم قديم، كلام عن طنطا، لا يهم، إنك تقرؤها، لأنها بقلمه ولا يعنيك فى كثير أو قليل رأى العالم فى كون ما بين يديك غير عميق لمجرد أن الشكل والألوان موحية بذلك وما دامت الطباعة غير فاخرة والغلاف ليس سميكا بما يكفى، وطبعا لأنها لا تتكلّم عن غياب الشبق المكبوت فوق تعاريج اللحظة (ولا تنس التشظّى من فضلك!). فالرجل عبقرى فعلا، من سواه وجد لأدبه مكانا بجوار صانع المتعة الجبار نبيل فاروق؟ عالم النشر الآن يحفل بمئات العناوين لكتّاب شباب، بعضهم موهوب والبقية ستذهب جفاء وكلهم تجرى فى عروق ما يكتبون جينات أسلوب أحمد خالد توفيق وطريقة تفكيره وسخريته من نفسه ومن العالم. هل يجرؤ أحدهم أن يضع عينيه فى عينيك ويتحدّاك أن ما يكتبه أصيل الابتكار والمضامين؟ بصمته هنا وهناك، والمدقّق سيجد كلمات بعينها تزخرف العبارات فتجعلها أكثر رشاقة، ومنهم من قضى ليال بلون الكوبيا يحاول الفرار من فخ التكرار وحذف كل ما يشير إلى الاختلاس. لكن الذى منحك الشعلة لتستمر بعده ما زال يمُدّها بالوقود، والذى وضع أساسك المتين ترك علامته المميزة. حتى لو أردت محوها فلن تستطيع! من عقدين كاملين والمطابع أخذت من كاتبنا الفذ مفتاح الشفرة لكنها لم تفهمها، فظنوا أنه يكفى أن يكون جو الرواية مرعبا مع لمسة فكاهية حتى تروج، لكن القراء ليسوا حمقى ولم يبتاعوا عصير اللفت لمجرد أنك ظريف ومعتد بنفسك وكتبت عليه عسل نحل. خرجت التجارب مبتسرة فاشلة، على الرغم من أن المسألة هى البساطة بعينها (لا يهم أن تبدو، المهم أن تكون)، الرجل قرأ كثيرًا (ولديه بالمناسبة ركن خاص فى مكتبة عقله لكتب مثيرة وثرية لتربته الخصبة لن تعرف حتى كيف تعدد عناوينها)، ومارس الكتابة والتجريب وانتهج لنفسه خطة شاملة واضحة المعالم، ابتكرت طرائقها ونقلت جوهر الأدب الغربى فى المبنى والمعنى بتمكّن غير مسبوق، والأهم منذ ذلك كله موهبة طبيعية وأرشيف أسطورى فى تلافيف مخه يسعفه بالأفكار والطرائف فى لمح البصر. يا أخى أنت لا تتعب نفسك فى قراءة أدب الرعب الأجنبى بلغته، ولا تمرّن قلمك فى كرمة أخرى، أو تراجع مسودتك مرارًا، وأخيرًا تنقل بعض المشاهد من فيلم أمريكى وتحشر طائفة من الدعابات السمجة لا تضحك سواك، تحت عنوان كابوسى وغلاف مخيف غير مبتكر، وتصدّق نفاق أصحابك فى حفل توقيع متواضع، ثم تظن أننى سأحب ما تكتبه وأضعك فى مكانة واحدة مع كاتب بقامة د.أحمد خالد توفيق. هيهات! وأنت تقرأ هذا الكلام الآن، تنتهى رحلة عمر طويلة رافقنا فيها العجوز الخالد، الدكتور رفعت إسماعيل، أستاذ أمراض الدم المتقاعد وبطل سلسلة روايات «ما وراء الطبيعة»، الذى أخذنا فى جلسة تحضير أرواح نوّمنا فيها مغناطيسيا بحنكة وبراعة حتى صارت ملامحه محفورة فى كل وجدان، ونظرته للأشياء والأشخاص نظرية نعيش بمقتضاها، وأسلوب حياته طبيعة ثانية لدى جيل كامل. تحمّس لسالم وسلمى القادمين من عالمهما الآخر وقصتهما الأولى (أرض أخرى) ذات التكنيك الخاص، أخطر حتى مما يفهمه السادة النقّاد، أصابته لعنة الفرعون، وآوى فى داره الكاهن الأخير، عاد معنا لذكريات البيت المسكون فى صباه، وكاد يحترق باللهب الأزرق. عرّفنا على رجل الثلوج والنبات المفترس وحسناء المقبرة، وجد قصاصات الغرباء ودخل عالم بو وفك أسرار التاروت، قابل عدو الشمس والمينوتور وعفريت المستنقعات، قص علينا حكاية إيجور الرهيبة والجاثوم والتوأمين، رأينا فرانكشتاين ورجل بيكين والمومياء، سمعنا النبوءة والكلمات السبع والرقم المشؤوم فى جانب النجوم. دخلنا المقبرة وأرض المغول والمتحف الأسود وبتنا فى بيت الأشباح ونادانا نادى الغيلان، عثرنا على الشىء والعلامات الدامية فى صندوق بندورا، رأينا الظلال والطوطم والفتاة الزرقاء (التى لم تظهر أبدا!) وفى النهاية ظهر حامل الضياء على أنغام أغنية الموت بعد أن ترك لنا «حلقة الرعب» مفتوحة، أجمل رواياته وأكثرها إتقانا. وفى العدد الأخير من السلسلة (أسطورة الأساطير) يستريح رفعت إسماعيل. العجوز الفاخر الساخر، نبراس كل شاب ذاق المر فى أيامنا البغيضة الممقوتة، وحلم كل فتاة مهذبة ضاقت ذرعًا بسخافات الناس، يتوقف قلبه على وعد بالظهور من آن لآخر فى أعداد خاصة، حسب رأى المؤلف -الذى نحترمه- منعًا للإملال، وحسب مأساة النشر المؤسفة حيث التخبط هو السمة السائدة، والنجاح عشوائى بدافع الارتجال وإعجاب القراء الوهمى من أصدقاء كل كاتب، ومشروع روايات مصرية للجيب -أقوى وأهم حركة نشر عربية- نشأ باهتمام فردى وظل كذلك حتى اختفى بريقه ورونقه المعتاد لأسباب كثيرة، ومنها بالتأكيد تقاعس صريح من أصحاب المؤسسة مهما ادّعوا العكس! ينتقل رفعت إسماعيل إلى مستقره الأخير لكن حزن ملايين القراء عليه حقيقى وأكثر صدقا من البكاء المزيف فى سرادقات الأدباء والفنانين ورجال الدولة، وأخيرًا يتم عبارته الخالدة لحب حياته (ماجى): «وحتى تحترق النجوم.. وحتى تأتى لى هناك.. سوف نظل معًا إلى الأبد ولن يفرقنا شىء». ونحن نرثيه بكلمات مؤلفه: «وداعًا أيها الغريب، كانت إقامتك قصيرة، لكنها كانت رائعة، عسى أن تجد جنتك التى فتشت عنها كثيرًا!».