لو قابلك صديقك يوما شاكيا هذا الصداع المستمر الذي يلازمه ويكاد يعصف برأسه، أو هذه الاضطرابات المعدية والمعوية التي لا تفارقه وتجعل من طعامه عملية تعذيب متكررة، أو تلك الحكّة الجلدية التي تحرمه النوم وتؤرق مضاجعه، أو ذلك الطنين الذي استوطن أذنه وفرض عليه أن يصفع نفسه كل دقيقة، أو أيا من تلك الأعراض العضوية المذكورة في الكتب الطبية، فكل ما عليك أن ترتدي ثوب أعظم الأطباء وأمهر المحللين وأن تخبره بكل ثقة واطمئنان بأنها حالة نفسية وتوتر عصبي، وعليك أيضا أن تباغته بالسؤال الساذج: «هوّه فيه حاجة مضايقاك؟» ومن الحكمة أن تناوله مباشرة برشامة النصيحة وكبسولة الموعظة دون أن تترك له مساحة للتفكير للإجابة عن سؤالك، وأن تؤكد له أن كل الناس عندها مشاكل، «ومن شاف بلاوي الناس هانت عليه بلوته» وعليك أن تخبره في استعلاء أنه ليس وحده صاحب المزاج «الوحش» لأن الأكيد أنهم لو ضبطوا مصريا من عموم المصريين «مزاجه حلو» لاعتقلوه فورا وسيكون أهم وأول سؤال في استجوابه بأمارة إيه مزاجك حلو؟!!. لقد أصيب المواطن المصري بانفصام الشخصية فلا يمكن لبشر أن يتحمل تلك التناقضات التي نعيشها دون أن يفقد عقله أو تنهار قدراته وقواه العقلية، يمكنك أن تعود إلي تلك الأزمة المتفاقمة بين جناحي العدالة في مصر من القضاة والمحامين وستجد أن المنوط بهم تطبيق القانون يصرون علي النيل منه ويقتتلون في ساحات العدالة، وأن عقلاء وشيوخ الطرفين وكبار رجال الدولة الذين يسعون إلي نزع فتيل الأزمة وإبطال مفعول القنبلة الموقوتة بحثا عن صيغة توافقية ترضي جميع الأطراف إنما في الحقيقة يتجاوزون القانون الذي لا يعرف أبدا إرضاء جميع الأطراف، فالجريمة تقع في العادة خارج ساحات العدالة، بينما يكون القول الفصل فيها في داخلها، ولكنها جرت هذه المرة داخل هذه الساحات بينما يتم البحث عن القول الفصل فيها في خارجها، وهاهو مجلس الشوري الذي يتم بالقانون تعيين ثلث أعضائه يتحول فيه انتخاب الثلثين إلي نوع آخر من التعيين، فلا يملك المصريون سوي الحسرة ليس علي نتيجة الانتخابات المعلنة وإنما علي كل هذه الإجراءات الشكلية والملايين المهدرة من جيوبهم الخاوية من أجل إخراج مسرحي يدرك فيه المتفرجون تفاصيل مشهد النهاية قبل أن تبدأ أحداث الفصل الأول، وهاهي الجمعية الوطنية للتغيير والتي تصور البعض أنها الأمل الوليد في إحداث التغيير المنشود تستنفذ معظم طاقات أعضائها في محاولة لتسوية الخلافات بينهم بعد أن أيقنوا أن «البرادعي» وإن كان قد حرك المياه الراكدة إلا أنه لن يمكنه غالبا تحويلها إلي شلالات هادرة قادرة علي توليد تلك الطاقة الكهربية الشعبية اللازمة لإضاءة ظلام الواقع السياسي، وهاهي الشفافية والنزاهة وطهارة اليد مازالت شعار المرحلة وكل مرحلة، بينما تطالعنا الصحف كل صباح بجريمة جديدة يرتكبها أحد كبار المسئولين من أجل الاستيلاء علي المال العام. لقد قرر المواطن المصري جبرا واختيارا أن يلتزم الصمت وأن يعيش في كنف السمع والطاعة للحزب الحاكم فلا قبل له بمواجهة الطوفان ولكنه إمعانا في مزيد من الطاعة قرر أن ينافس علي جائزة المواطن المثالي الذي ينفذ كل ما تطلبه منه حكومته الميمونة ولكنها وللأسف كثيرا ما تصر علي التلاعب به والعبث بخلايا عقله إذ تدعوه إلي ممارسة حقوقه السياسية وتهدده بالغرامة إذا تخلف عن الإدلاء بصوته ثم تعفيه تماما من كل ذلك وتنوب عنه في الترشح والتصويت معا فيصبح في حيرة من أمره وأيضا في حيرة من أمرها، فإذا عاد مسرعا إلي دستور بلادي المعدل الذي أقرته حكومة بلادي ووافق عليه مجلس شعب بلادي في إطار حالة الطوارئ المعلنة دائما في بلادي وجد أن المواطنة تعطي للجميع دون تمييز نفس الحقوق والواجبات فإذا نظر من النافذة وجد أن لبعض المواطنين كل الحقوق، بينما تقع علي عاتق معظمهم كل الواجبات. إنها شيزوفرينيا مصرية متفردة جدا تدفع المجتمع المصري نحو الهاوية وتجعل من الجريمة منهجا لحياة المصريين بعد أن أصبح لكل شيء في مصر معنيان فمعني الديمقراطية عند الحاكم يختلف عن معناها عند المحكوم، ومعني الشفافية والنزاهة عند علية القوم ليس بالضرورة هو نفس معناها عند عامتهم، أما القانون فقد أصبح بلا معني بعد أن غاب عن الدولة واغتيل عند رجال القانون.