شاءت الصدف أن يفوز زميل ليبي يوم الأربعاء الماضي بجائزة سمير قصير لحرية الصحافة إلي جانب زميلة مصرية. وألقي الزميل الليبي الفائز مصطفي الفيتوري بعد أن تسلم النسخة الخامسة للجائزة من جيزيل خوري - رئيسة مؤسسة سمير قصير - وباتريك لوران - رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي في لبنان - كلمة عبر فيها عن اعتزازه بحصوله علي الجائزة، وقرأ مقتطفات من أجمل ما كتب، خاصة في صحيفة النهار عن سمير قصير ونضاله من أجل الحرية والديمقراطية منذ استشهاده في الثاني من يونيو/2005. لكن زميلنا الليبي نسي أو ربما تجنب الإشارة - لأسباب قد تتعلق بارتفاع ثمن حرية التعبير في الجماهيرية العربية الليبية العظمي - إلي أن سمير قصير تم اغتياله في اليوم نفسه الذي أعلن فيه العثور علي جثة الصحفي الليبي ضيف الغزال مقطعة الأطراف ومشوهة في إحدي ضواحي مند الجماهيرية. وضيف الغزال ليس أول صحفي يتم اختطافه وإعدامه خارج نطاق القضاء في ظل نظام طالما اعتبر معارضيه سواء كانوا صحفيين أو غيرهم "كلابا ضالة" أو «خونة» يجب قتلهم بلا شفقة إن لم يعودوا صاغرين ونادمين إلي أحضان «الثورة» التي ما انفكت تأكل أبناءها منذ جلوس قائدها العقيد معمر القذافي علي كرسي السلطة منذ أكثر من أربعين عاما، كما أن سمير قصير لم يكن أول أو آخر صحفي لبناني تمتد يد الحقد الأعمي للفتك به. فقد تعرض جبران تويني لحادثة اغتيال لا تقل حقدا في ديسمبر 2005 بعد أن فشلت محاولة اغتيال مي شدياق قبل أشهر قليلة. مقارنة بتجربة سمير قصير الصحفية والأكاديمية والتنظيمية الباهرة في بيروت وباريس التي استمرت حوالي 28 عاما، لم تتجاوز تجربة ضيف الغزال خاصة في مجال الكتابة عن الفساد والمطالبة بالإصلاح السياسي في مواقع إلكترونية تعمل من الخارج مثل «ليبيا اليوم» و«ليبيا جيل» حوالي ثلاثة أشهر، عندما أعلن عن نبأ العثور علي جثته مخربة بالسكين والرصاص. و كان الغزال الذي عمل مدة سنوات في صحيفة «الزحف الأخضر» الناطقة باسم اللجان الثورية قد تلقي تهديدات بالقتل إثر شروعه في الكتابة عن الفساد والإعلان بأنه يملك وثائق تثبت تورط مسئولين في قضايا فساد. لكن هذه التهديدات لم تزده إلا إصرارا علي الاستمرار - حسب قوله- في «تسليط أسطع الأضواء علي مكامن الداء والأعداء» مختتما جل مقالاته الأخيرة بالجملة التالية: «ولي عودة إن سلمت». ورغم قصر تجربة الغزال كصحفي منشق عن نظام خانق لحرية التعبير خنقا مريعا وملاحق للصحفيين العرب والأفارقة الناقدين لسياسات ملك ملوك أفريقيا؛ فإن اغتياله - ولم يتجاوز الثانية والثلاثين من عمره - حوله إلي رمز في نظر العديد من الصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان. كما عزز تزامن اغتياله مع مقتل سمير قصير الوعي لدي العديد من الصحفيين العرب بأن اغتيال زملائهم الأكثر جراءة وفضحا للمسئولين عن الاستبداد والفساد سيظل من أولويات عمل الأجهزة الميليشياتالقابضة في الخفاء علي زمام حكم والميالة للانتقام بالسيف والرصاص من أصحاب الرأي الآخر، وذلك ما لم تتضافر الجهود لبناء حركات ومؤسسات قادرة علي حماية الحريات الأساسية وتأمين سلامة المواطنين. ومن بين نقاط الالتقاء بين قصير والغزال أن كليهما تعرض في البلد الذي أحبه حتي الاستشهاد إلي محاولة تشكيك سخيفة في انتمائه لبلده. فقد جاء علي لسان وزير العدل الليبي بعد حوالي ثلاثة أسابيع من اختطاف واغتيال الغزال أنه سيتم التحقيق فيما حدث لصاحب الجثة التي عثر عليها ذي الأصول المصرية. وتذكر هذه المحاولة للتشكيك في انتماء الغزال بما تعرض له قصير في عام 2001 من مضايقات بوليسية وحجز لجواز السفر والتشكيك في انتمائه إلي لبنان، بسبب كتاباته الداعية إلي إنهاء الهيمنة السورية علي لبنان والمتحدية لمراكز النفوذ التي لا مصلحة لها في أن يصبح لبنان سيد قراره ويلعب دورا رياديا في المنطقة علي طريق الديمقراطية ودعم نضال أشقائه ضد الاستبداد والاحتلال. ولاشك أن المضايقات البوليسية التي تعرض لها قصير أثرت في نفسه بسبب وقوف عدد من زملائه في لبنان موقف المتفرج في وقت هبت فيه مجموعة من الكتاب والصحفيين السوريين - رغم الحصار الخانق المفروض عليهم - للتعبير عن تضامنهم معه. لكن المضايقات وصمت أو خوف العديد من الزملاء لم ينل من عزيمته علي مواصلة التفكير في سبل نيل لبنان لاستقلاله الثاني والأصداع برأيه في أقوم المسالك لطي صفحة الاستبداد وإلحاق لبنان بركب الدول التي تخلت عن استعمال الخناجر والرصاص للرد علي المعارضين والصحفيين. كما أدركت هذه الدول - علما بأن بعضها كان لا يقل استبدادا عن الدول العربية حتي نهاية القرن العشرين - أنها تتقدم في مختلف المجالات ويعلو شأنها ما لم تستمع إلي معارضيها ومثقفيها وصحفييها. و كان تفوق سمير قصير منذ نعومة أظفاره في الدراسة ونجاحه الأكاديمي والإعلامي الباهر يؤهلانه للالتحاق بأعرق الجامعات أو مراكز الأبحاث الأوروبية والعيش بعيدا عن منطقة لم تتوقف عبر التاريخ عن اضطهاد وقتل من يدعو إلي نهضتها مثلما حدث للمصلح والصحفي عبدالرحمن الكواكبي الذي أثر في مسيرة سمير قصير وشغفه بالإصلاح. وكان الكواكبي الذي اضطرّ إلي الهجرة من الشام إلي مصر حيث مات مسموما في بداية القرن الماضي، ما انفكّ يحذّر من مخاطر الاستبداد وخاصة «استبداد الجهل علي العلم» و«استبداد النفس علي العقل»، غير أنّ قصير آثر رغم إغراءات باريس العودة إلي بيروت التي أحبّها وناضل من أجل أن تستعيد ريادتها الإعلامية والثقافية والإصلاحية مثلما عبّر عن ذلك في كتابه «تاريخ بيروت»، وقد حصل لي شرف الالتقاء بسمير قصير في عديد من المرات عامي 2000 و2001 عندما كلّفتني منظمة العفو الدولية بفتح وإدارة أوّل مكتب إقليمي لها في بيروت، فوجدت منذ اللقاء الأوّل في مكتبه بالمقر القديم لجريدة النهار في شارع الحمراء مثقفا بشوشا يملك رؤية واضحة حول سبل نشر مزيد من التربية علي نشر حقوق الإنسان ودور الصحفيين العرب في هذا المجال. وقد ظنّ الذين أعماهم الحقد قبل اتخاذ قرارهم باغتيال سمير قصير بسبب كتاباته ومواقفه الجريئة وقدرته علي المساهمة في رسم «خارطة طريق» الخلاص من الاستبداد أنّهم قادرون علي تعطيل مسيرة اللبنانيّين وبقية العرب نحو الحرية. غير أنّ الرد علي حساباتهم الإجرامية الخاطئة كان سريعا من عائلة وأصدقاء وأحباء سمير قصير. فالمؤسسة التي تحمل اسمه اليوم وتعمل علي تحقيق أحلامه سلّمت في الذكري الخامسة لاغتياله، بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي النسخة الخامسة لجائزة سمير قصير لحرية الصحافة، ومركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية SKEYES التابع لهذه المؤسسة الواعدة يرصد منذ تأسيسه في عام 2007 أوضاع هذه الحريات في كل من لبنان وسوريا وفلسطين والأردن وينظم لقاءات مفيدة حول قضايا مهمة كالرقابة وسبل تجاوزها. كما يتواصل هذه الأيام في بيروت مهرجان ثقافي دولي رائع يحمل اسم (ربيع بيروت ) تكريما لسمير قصير. وممّا يبعث علي الأمل أن تري آلاف الشباب يستمتعون بالعروض المسرحية والموسيقية لهذا المهرجان. ويحمل أحد هذه العروض المسرحية عنوان: أنّا بوليتكوفسكايا Anna Politkovskaia تلك الصحفيّة الروسية الشجاعة التي ذهبت ضحيّة عملية إجرامية قاتلة في موسكو نتيجة تغطيتها لأعمال وحشية أثناء النزاع الانفصالي في الشيشان. وليس من باب الصدفة أن يتضمّن برنامج ربيع بيروت مسرحية حول مقتل هذه الصحفيّة أو أن تكون رفقة سمير قصير وجبران تويني علي قائمة تحمل عنوان (عشر جرائم قتل ضد صحفيين يجب حلّها) نشرتها لجنة حماية الصحفيين في نهاية أبريل الماضي وناشدت السلطات في عشرة بلدان كي تحقق فيها العدالة وتستأصل ثقافة الإفلات من العقاب. وتري هذه المنظمة الدولية أنّه «يمكن حل كل الجرائم المشار إليها في القائمة» وأنّ «ما ينقص حلّ هذه القضايا الإرادة السياسية». لكنّ الإرادة السياسية لا يمكن أن تتوفر في غياب وقوف الأصدقاء والزملاء والمنظمات الحقوقية العربية والدولية المدافعة عن حرية الصحافة ومن بينها الجمعية العالمية للصحف التي ساهم دعمها وتضامنها خاصة من خلال دورات المنتدي العربي لحرية الصحافة في بيروت منذ 2006 في تعزيز صفوف الصحفيين العرب المتعطشين للحرية، علما بأن عدد المنظمات العربية المدافعة عن حرية الصحافة ما انفكّ يتكاثر وأنّ خمسًا من هذه المنظمات حازتمنذ اغتيال ضيف الغزال وسمير قصير وجبران تويني علي العضوية بالشبكة الدولية لحرية التعبير «آيفكسIFEX »، ممّا يعزز الأمل بحماية غد أسلم للصحفيين ينبلج صبحه بالقبض علي قتلة زملائنا ووضع حد لظاهرة الإفلات من العقاب.