«لا يوجد صدق دائم، ولا عدو دائم، توجد فقط مصالح دائمة»، وفقا لهذه الحكمة السياسية النفعية يمكن وصف المارد الصيني، فقبل سنوات قليلة كان كثير من مثقفينا وكتابنا في العالم العربي يهللون بفرح غامر لدولة الصين ولتقدمها وازدهارها الاقتصادي، بل راهن البعض علي أن تصبح الصين خلال عقد أو عقدين فقط أكبر اقتصاد في العالم، ومن ثم فقط تستطيع أن تفرض إرادتها السياسية علي الغرب والشرق، وبحكم علاقاتها التاريخية مع مصر ومعظم الدول العربية التي كانت أول من يعترف بالصين الشعبية ويرفض الاعتراف بتايوان «الصين الوطنية» الحليفة للغرب، ظن العرب أن بكين ستناصرهم في قضاياهم ومشكلاتهم وعلي رأسها القضية الفلسطينية، فماذا حصل عبر السنين؟.. لم نشهد مؤشرا واحداً يدل علي أن الصين مستعدة في اللحظة الراهنة أو في المستقبل القريب لخسارة صداقتها مع إسرائيل التي وطدت علاقاتها مع بكين وتمدها بتكنولوجيا التصنيع العسكري الذي تحتاجه الدولة الصينية بشدة، بل إن إسرائيل لم تتردد في الكشف عن أنها هي التي أقنعت وضغطت علي القيادة الصينية حتي لا تستخدم «الفيتو» في مجلس الأمن ضد قرار فرض العقوبات الأخير علي إيران. ليس في هذا ما يثير الاستغراب أو الاستهجان، فالسياسة مصالح، ومن حق الصين أن تسعي وراء مكاسبها وتقلل من خسائرها المتوقعة إذا اتخذت قراراً غير محسوب أو صحبته تداعيات سلبية هنا أو هناك. الصين التي رحبنا بملتقاها مع القادة الأفارقة قبل أشهر قليلة في إطار رهاننا علي تحصيل مكاسب أوسع من القوة الاقتصادية الرهيبة البازغة في الشرق، لم تفكر كثيرا في غضبنا وهي تشرع في بناء سدود ومشاريع مائية في دول أعالي النيل، رغم علمها يقينا بمدي خطورة هذه المشاريع علي مستقبل مصر ونهضتها، بل إن المخاوف الآن تتعلق بالوفرة المالية الهائلة لدي الصين والتي قد تدفعها إلي المبادرة بتمويل هذه المشاريع في إطار سعيها إلي تدعيم علاقاتها المتنامية مع الدول الأفريقية كافة دون الالتفات إلي مدي توافق المشاريع المائية المخططة مع القانون الدولي الذي يحظر تمويل سدود مائية علي نهر دولي دون موافقة جميع الدول التي يجري بها النهر. لا ألوم الصين أبداً، فهي تنين لاهب يستعد لالتهام القارة الأفريقية قطعة قطعة، ولن تتردد في استكمال مسيرتها مهما كلفها ذلك، أغرقت الصين -ولا تزال- مصر والدول الأفريقية بالسلع والبضائع رخيصة الثمن وتسببت في إغلاق آلاف المصانع المحلية غير القادرة علي المنافسة، في ظل انتشار فساد لا يخفي علي أحد بمعظم إن لم يكن جميع الدول الأفريقية. لا تبالي الصين - وهي دولة غير ديمقراطية تنتهك حقوق الإنسان بالجملة - بالاشتراطات الغربية الحقوقية، فتعقد الصفقات التجارية بدعوي المنفعة المتبادلة، لكنها تقضي علي البيئة فتلتهم الغابات الأفريقية لاحتياجاتها النهمة للأخشاب. تستغل الصين نظرة التقدير العربية والأفريقية باعتبارها دولة دون تاريخ استعماري، لتتقدم بعولمة جديدة مختلفة عن النهج الغربي، لكنها في النهاية عولمة استنزافية تستهدف تلبية متطلبات دولة عملاقة ستتبوأ بعد سنوات قليلة لقب أكبر دولة مستهلكة للبترول في العالم ولهذا تسعي إلي تأمين نصف احتياجاتها البترولية من القارة الأفريقية.. ومن أجل هذه السلعة الاستراتيجية التي قامت من أجلها صراعات وحروب، راحت الصين تدعم المتمردين التشاديين في الأراضي السودانية فساهمت بشكل أو بآخر في تأجيج الصراع في دارفور، لكنها في النهاية نالت مبتغاها، فتراجعت تشاد عن اعترافها بتايوان فيما حصلت بكين أيضا علي مشاريع بترولية داخل تشاد والسودان في آن واحد. التغول الصيني في أفريقيا لا يقتصر علي المصالح الاقتصادية بل يشمل السياسة والثقافة، فالصين تشارك في القوة الدولية لمكافحة القرصنة أمام السواحل الصومالية وخليج عدن لتأمين مصالحها، وتقود الصين منحاً ثقافية وتعليمية وصحية واسعة في عشرات من دول القارة السمراء، وسوف تواصل نهجها دون كلل أو ملل وهذا حقها. لكن مصيبتنا أننا عاطفيون أكثر مما ينبغي ولا ننظر لمصالحنا نظرة برجماتية، دائما ننتظر الغير أن يساعدنا، ولا نحسن استخدام الأوراق التي بحوزتنا. رأينا الصين تعبث في أمننا القومي بمياه النيل، فلم نحرك ساكنا ولم نهدد بالامتناع عن استيراد السلع الصينية واستبدالها بأخري تايوانية. لم نلوح بنفرة غضب تجعل الصين تعيد حساباتها. بحساب المصالح والخسائر.. ليست الصين حتي الآن بعدو، لكنها يمكن أن تصبح كذلك مستقبلا ما لم نلتفت لنقاط الصراع والتعاون معها، وما لم نبدأ بأنفسنا أولاً.