المؤامرة جزء من تاريخ البشر، ومكون هام فى علاقات الدول كبيرها وصغيرها، بل وفى التفاعلات السياسية داخل الدول. المهم هنا هو أن نضع «المؤامرة» فى حجمها الطبيعى، فلا نبالغ فى النظرية ونرجع إليها فى تفسير كل الأحداث والتطورات، فنقع أسرى لها ونعفى الذات من المسؤولية، ولا نستخف بالنظرية ونستبعدها تمامًا من التحليل فتتوالى الكوارث. المؤامرة موجودة وقائمة بذاتها فى علاقات الدول وداخل النظم السياسية، المؤامرة موجودة بين الدول الصديقة والمتحالفة، وبالطبع بين الدول المتنافسة والمتصارعة. المشكلة تبرز عندما يجرى الوقوع فى أَسْر نظرية المؤامرة، ومن ثم تصبح نظرية المؤامرة هى المفسر الأول، وربما الوحيد لكل الأحداث والتطورات، وتزداد الخطورة عندما يتعمد النظام السياسى نشر نظرية المؤامرة على المستوى الشعبى، فيصبح الشعب كله أسير هذه النظرية ويرى العالم من زاوية واحدة، هى زاوية المتآمر عليه بسبب مكون ما لدى هذا الشعب، قد يكون من بين عوامل الانقسام الأولية
«الموروثة» أوالثانوية «المكتسبة»، وتقول له نظرية المؤامرة إنه مستهدَف من قِبل آخرين.
تروج وسائل الإعلام الغربية لمقولة أن العرب يعيشون أسرى لنظرية المؤامرة، وأن المؤامرة باتت مكونًا أصيلًا من مكونات الثقافة العربية. تروج وسائل الإعلام الغربية لمقولة أن العرب يعلقون مشكلاتهم وكوارثهم على تآمر الآخرين بحقهم، وهناك من قدم الثقافة العربية باعتبارها نموذجًا للثقافة القائمة على نظرية المؤامرة. وهنا نقول إن المؤامرة تحتل ركنًا مهمًّا من أركان التفكير العربى بالفعل، ولكن لاعتبارات لا بد من ذكرها، منها أولًا: واقع التآمر الدولى الذى تعرض له العالم العربى، ومنها ثانيا: توظيف عدد من القادة السياسيين العرب لنظرية المؤامرة من أجل جلب مزيد من التأييد الشعبى من ناحية وتأجيل استحقاقات تتعلق بالتنمية السياسية أو الديمقراطية فى البلاد حتى يتم التصدى للمؤامرات الخارجية أولًا. ورغم ذلك لا يمكن أن نقول إن الفكر العربى أسير لنظرية المؤامرة أو إن النظرية تسيطر على فكر العرب وثقافتهم، فهى موجودة بقدر ما، ولوجودها مبررات تاريخية، كما أنها توظف من قبل قيادات عربية.
وإذا أردنا أن نتحدث حقيقة عن رسوخ الفكر التآمرى فى ثقافة شعب من الشعوب، فلن نجد أكثر من الفكر الصهيونى الذى قام بالأساس على إيمان تام بالعبقرية الذاتية، النقاء العرقى، السمو والتفوق على الغير، ومن ثم كان «اليهود» طوال الوقت، وفى مختلف البلدان محل حقد الآخرين، ومن ثم مؤامراتهم على اليهود، وجاء فى الفكر الصهيونى أن اليهودى سوف يظل يعانى من مؤامرات الآخرين «الأغيار» ما لم يهاجر إلى فلسطين، إلى أرض الميعاد، يعيش مع إخوانه من اليهود، يقيم دولته المستقلة، ويحقق ذاته وينجو من تآمر الأغيار عليه. يعد الفكر الصهيونى نموذجًا للفكر القائم بالكامل على نظرية المؤامرة، ورغم ذلك فلا تجرؤ وسائل الإعلام الغربية ولا مراكز الفكر الغربى على توجيه الاتهام للفكر الصهيونى باعتباره أسير نظرية المؤامرة أو قائمًا بالأساس على هذه النظرية، أكثر من ذلك هو فكر يوظف المؤامرة بشكل كامل، فمنذ نشأة الحركة الصهيونية على يد تيودور هيرتزل فى المؤتمر الصهيونى الأول بمدينة بازل بسويسرا عام 1898، احتلت نظرية المؤامرة ركنًا أصيلًا من أركان مشروع إقامة الدولة اليهودية على جزء من أرض فلسطين، وفى هذه القضية تعرض العرب لمؤامرة كبرى اشتركت فيها الحركة الصهيونية مع عواصم غربية كبرى، منها باريس، ولندن وواشنطن.