لا يخفي علي أحد في مصر أن السيد «عماد أديب» من الشخصيات التي لها علاقات وثيقة بدوائر صنع القرار في مصر، ولهذا فعندما يذكر سيادته أخباراً تتعلق باتجاهات هذه الدوائر فإننا نثق أن ما يذكره يكشف فعلا عن حقيقة توجهات السلطة في مصر. في لقاء امتد طويلا ببرنامج «العاشرة مساء» صال السيد «عماد أديب» وجال في موضوعات شتي، ما استوقفني بحكم اهتمامي بقضايا الإعلام وحرية التعبير هو ما ذكره من أن الحكومة سوف تتقدم في هذه الدورة لمجلس الشعب بقانون تنظيم البث الإذاعي والتليفزيوني. ومعني هذا أن الأشهر القليلة المقبلة سوف تشهد تحرير هذا القانون بمجلس الشعب، وهو قانون يعتبر بكل المقاييس كارثة تهدد بالقضاء تماما علي هامش الحرية الهش الذي تمتعت به القنوات التليفزيونية الخاصة طوال السنوات القليلة الماضية. القانون الكارثة أعدته الحكومة في سرية بالغة ثم تسربت أخباره إلي الصحف.. وبعد نشر نص مشروع القانون سارعت الحكومة أول الأمر بنفي وجوده أصلا. ثم عادت لتعترف بوجود هذا المشروع وادعت أنه مجرد مسودة لمشروع قانون سيتم طرحها لحوار عام قبل أن تتقدم به الحكومة إلي مجلس الشعب، وبعد ذلك ساد الصمت المريب وتوقف الحديث حوله، ومضت الأشهر الطويلة ولم يطرح مشروع القانون لحوار عام كما زعمت الحكومة بل لم تتم الإشارة إليه في أي مناسبة. والواضح بعد أن كشف السيد عماد أديب عن نية الحكومة تمرير هذا القانون في الدورة الحالية وهي الأخيرة لمجلس الشعب، أن الحكومة تنوي مفاجأة الجميع بتقديم القانون لمجلس الشعب ليتم تمريره خلال أيام وربما ساعات، وطبعا سوف يتم تقديم القانون مصحوبا بزفة إعلامية يقودها بعض الإعلاميين تتغني بفضائل هذا القانون بزعم أنه سيحرر الإذاعة والتليفزيون من قبضة الاحتكار الحكومي بإنشاء «مجلس قومي» لتنظيم البث الإذاعي والتليفزيوني «الأرضي والفضائي». وهذا التبرير الساذج لا ينطلي علي أحد، ويكفي أن نعلم أن قانون إنشاء اتحاد الإذاعة والتليفزيون الذي صدر منذ أكثر من أربعين عاما تضمن نفس الديباجة التي تبشر بإلغاء الاحتكار الحكومي للإذاعة والتليفزيون، وإنشاء مجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتليفزيون الذي يتولي السلطة الكاملة في كل ما يتعلق بالإذاعة والتليفزيون، بل نصت مواد القانون علي عدم تدخل وزير الإعلام في قرارات مجلس أمناء الاتحاد!، ورغم ذلك فها هي أربعون عاماً قد مضت منذ إصدار هذا القانون، وقبضة الحكومة ووزارة الإعلام لم تزل علي قوتها ولم تتخل الحكومة عن الاحتكار الكامل للإذاعة والتليفزيون. وقد يجادل البعض بأن السيد صفوت الشريف استصدر تعديلات للقانون تمنح وزير الإعلام سلطة رفض أو التصديق علي قرارات مجلس الأمناء وأن القانون الجديد سيخلو من مثل هذه السلطة لوزير الإعلام بل ربما بشرنا المشاركون في زفة القانون بأن وزارة الإعلام سيتم إلغاؤها. والواقع العملي يؤكد أن بقاء وزارة الإعلام أو إلغاء مثل هذه الوزارة ليس هو الفيصل في وجود حرية إعلام، فهناك دول عربية ألغت منصب وزير الإعلام ورغم ذلك بقيت قبضة الحكم صارمة وعنيفة علي وسائل الإعلام. بينما يوجد منصب وزير الإعلام في لبنان ومع ذلك يتمتع الإعلام اللبناني بحرية كاملة، ومع تحفظي علي نمط هذه الحرية وكيفية استغلالها إلا أن هذا التحفظ لا يقلل من حقيقة تمتع الإعلام في لبنان بكامل الحرية. أما المجلس القومي الذي يتحدث عنه القانون، فهو يماثل تماما مجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتليفزيون، تُعين الحكومة أعضاءه وطبعا لا يمكن لعاقل أن يتصور أن الحكومة ستختار لعضوية مثل هذا المجلس أي إنسان لا تطمئن تماما إلي ولائه التام وخضوعه المطلق للتوجيهات!! تبقي الكارثة الكبري في العديد من بنود القانون التي تجعل سلطة هذا المجلس تتجاوز حدود الإذاعة والتليفزيون الحكوميين، بل ستمتد سلطة هذا المجلس إلي جميع قنوات البث الإذاعي والتليفزيوني العاملة في مصر أو التي لها مكاتب ومراسلون في مصر. ويمنح القانون هذا المجلس سلطة منح «تراخيص» العمل بأي وسيلة إعلامية حتي إن كانت تبث من خارج مصر، وله مطلق السلطة في منح ومنع هذه التراخيص بغير معقب علي قراراته، وتمتد سلطة هذا المجلس إلي تجريم أي «مادة مسجلة» ولو كانت مسجلة علي هاتف محمول ويري المجلس أن هذه المادة المسجلة يحتمل أن تستخدم في برامج لا يرضي عنها المجلس!! بل تتسع دائرة سلطاته لمنع استيراد أو تصنيع أي أجهزة بث أو استقبال يري أنها قد تلتقط إشارات من بث خارجي لا يرضي عنه المجلس!! القانون الكارثة يتضمن عشرات المواد التي تغلق تماما كل ثغرة يمكن أن تفلت منها كلمة حرة! وإذا كنا نعاني اليوم التضييق علي حرية التعبير فإن القادم أسوأ.