ويفسر لنا حالة العشق لوطن يعاند نفسه ويكرهنا مشهد من الفيلم رغم مرور أكثر من ثلاثة عشر عاما علي ظهور موجة الأفلام الكوميدية، إلا أن بعضنا مازال يطلق علي نجومها مصطلح «الكوميديانات الجدد». حسنا.. لا توجد تسمية أخري يمكن استخدامها لتوصيف هذا الجيل من نجوم الكوميديا، والذي اختصر - أغلبهم - الكوميديا و«حشروها» في ركن ضيق حتي اختنقت من الإيفيهات المكررة والمشاهد الفجة التي تخدش حياء العقل، قبل أن تخدش حياء المراهقين والمؤرقين بالهواجس الجنسية.. صحيح أن أفلام هذا الجيل قد خلت تماما من المشاهد الساخنة والقبلات والأحضان التي تثير حفيظة جمهورنا المحافظ، لكنها - في الوقت نفسه - خلت أيضا وتماما من المضمون.. وحفلت بما لذ وطاب من إيفيهات جنسية لفظية بذيئة، وعنصرية مقيتة جعلت النجوم يتصورون أن ذوي الاحتياجات الخاصة وقصار وطوال القامة وسمر البشرة وذوي الأحجام الضخمة مثار سخرية ومادة مضمونة لضحك الجمهور. كثير من أفلام جيل الكوميديا المسيطر علي الساحة منذ سنوات مفتقد للسيناريو والإخراج وكل العناصر التي تتكاتف لصناعة فيلم جيد.. أعلن نجوم الكوميديا أنه لا أهمية لأي شيء في الفيلم السينمائي سوي للبطل وإيفيهاته وحركاته ورقصاته وإيماءاته ونظراته ولفتاته.. كل من في الفيلم من مخرج إلي مدير تصوير إلي مونتير إلي ممثلين هم خدم للنجم.. استغل نجوم الكوميديا رغبة وتعطش الناس للذهاب إلي السينما، كأسوأ ما يكون الاستغلال.. إلي أن اكتشف الجمهور تفاهة ما يقدمون، فأعرض عن أغلبهم، وفضل انتظار أفلامهم علي قنوات الأفلام بدلا من دفع تذكرة في أفلام تستخف بهم وبالفن، وتربي جيلا كاملا من أطفال يحتفون بالفشل والتفاهة والسذاجة والقيم المقلوبة. لأول مرة يقرر صناع فيلم سينمائي من أفلام بداية الألفية الجديدة، ومن مجموعة تنتمي لجيل صناع الأفلام الكوميدية الذي بدأ مع محمد هنيدي وأفرز الراحل علاء ولي الدين وهاني رمزي، وكشف عن موهبة جادة لأشرف عبد الباقي، وكاد ينتهي مع إفلاس محمد سعد إلي أن تطور علي يد أحمد حلمي ممتدا إلي أحمد مكي.. لأول مرة ينجح صناع فيلم من هذا الجيل أن يقدموا لنا فيلما صادقا موجعا وحافلا بالكوميديا السوداء، واسمه «عسل إسود».. في كل مشهد من الفيلم ومع كل لقطة، ستضبط نفسك متلبسا بالضحك عالي الصوت تتبعه ابتسامة تنتهي بشجن وحزن وحسرة علي بلدنا وعلينا.. لأول مرة يصنع نفس نجوم هذا الجيل الذين ضمّنوا أفلامهم بجمل مثل.. «إحنا اللي رمينا الزبالة»، و«أمك حتي لو كانت وحشة فلازم تحبها»، و«مصر محتاجالك»، و«إحنا طيبين وبنصدق كل حاجة»، «وبلدنا حلوة وجميلة ونضيفة.. وإحنا الشهامة وإحنا الرجولة».. وغيرها من الجمل والعبارات التي حفلت بوطنية مزيفة، وكلمات بلهاء لا يصدقها حتي من كتبها.. لأول مرة يصنعون فيلما يمكننا أن نصدقه ونصدق عليه ونعتمده كفيلم معبر عنا وعن حالنا.. لا يزيف الواقع ولا يجمله، لكنه يجعلنا نتقبله علي مضض علي أمل تغييره - مستقبلا - إلي الأحسن.. لأول مرة يقرر صناع فيلم سينمائي جديد أن يقدموا لنا فيلما فيه خلاصة قصيدة صلاح جاهين الخالدة «علي اسم مصر»، والتي تلخصت في: «باحبها بعنف وبرقة وعلي استحياء، واكرها والعن أبوها بعشق زي الداء»، وكلمات نور عبدالله في أغنية الفيلم: «يا بلد معاندة نفسها.. يا كل حاجة وعكسها»، ثم كلمات أيمن بهجت قمر في أغنية: «فيها حاجة حلوة» مع الصور الدافئة علي تيتر النهاية التي من المفترض أن عدسة إدوارد، ذلك الشاب المحبط قد التقطتها. لم تظهر أي بطلة في أحداث الفيلم.. إنه ليس أكثر من بطل ساذج بائس عاد إلي حبيبته، فوجدها قبيحة فجة قاسية، فتركها وتعالي عليها، لكنها قامت باستمالته وجذبته إليها مرة أخري فخطبها وارتدي دبلتها «خاتم علم مصر الذي اشتراه مصري سيد العربي»، ثم أصبح أسيرا لها.. عودته كانت إليها وهجرته كانت بسببها، ورجوعه مرة أخري مرهونا بها وليس بالحبيبة «الأنثي»، وإنما بالحبيبة «الوطن والسكن والأهل». أحمد حلمي ممثل متنقل بانفعالاته ومتحكم في أدائه بين الفرح الطفولي للعودة للوطن الحلم، ثم الصدمة بعد انهيار الحلم والحزن علي تبعات الانهيار في إطار كوميدي ساخر ومرير.. إنعام سالوسة أم مصرية حنون مدبرة.. يوسف داود مصري أصيل اختار أن يري الوطن جميلا.. لطفي لبيب مصري نصاب خفيف الظل.. إدوارد مصري محبط.. طارق الأمير مصري مقهور مكبوت وإيمي سمير غانم مصرية تجسد أمامنا سبب انهيار التعليم في مصر ونتيجته.. خالد مرعي مونتير يضبط إيقاع الفيلم ويشد فيلمه بمعاناة وسط ترهلات وطن كثير الخيبات، ومخرج اكتسب خبرة بدت واضحة في كل لقطة ذكية يحملها الفيلم، وخالد دياب كاتب لسيناريو ممتع رغم ما يحمله من كآبة قادرة علي تشويه أي متعة.. كل هؤلاء قدموا لنا فيلما كوميديا موجعا.. متخما بالنقد الاجتماعي.. يقدم الشخصية المصرية بكل تناقضاتها وفشلها وخيبتها، وجمالها وطيبتها وروعتها.. لأول مرة يتناول فيلم كوميدي جديد مصر والمصريين بإبراز وتوضيح كل المساوئ في الشخصية المصرية.. من التدين الزائف لموظف مرتش في نهار رمضان، إلي سرقة الأحذية من أمام المساجد، إلي الروتين والبيروقراطية، والنصب والاحتيال علي الغريب أيا كانت جنسيته، ورغبة كل الشباب في الهجرة والهروب من جحيم بلد لا يقدر أهمية الشباب ولا يحترم أحلامهم، فيعمل أغلبهم في مهن لا تهتم بقيمة التخصص، ثم تعامل الناس مع الأجنبي باحترام وإهدار كرامة أي مصري في كل الأماكن من أعلاها إلي أدناها.. كل ذلك تناوله الفيلم بسخرية مريرة وطرافة وخفة دم جعلتنا نتقبل تعرية هذا الفيلم لنا وتجسيمه لكل عيوبنا دون اعتراض، فالصدق الذي تناول به الفيلم كل هذا أنقذه من غضبنا علي عرضه لعيوبنا، وجعلنا نخجل من مجرد الاعتراض علي تعريتنا بهذه الصورة، خصوصا أنه وبنفس القوة والحنان والدفء، قدم أجمل وأعذب وأرق ما فينا من موظف لا يقبل الرشوة رغم فقره، وجيران بسطاء لا يتكلفون في طلب المساعدة من بعضهم البعض.. متكاتفين ويعرفون قيمة الجيرة - «الطبق اللي طالع مليان نازل مليان منذ بداية رمضان ولم يعرف أحد من صاحبه» - وأسرة رقيقة الحال تبالغ في كرم ضيافتها لجار قديم، وتقتطع من قوتها لضيافته «إنعام سالوسة الأم تحججت بعدم رغبتها في أكل اللحمة، لأن نصيبها أخذه الضيف، ولم تظهر ذلك»، وراقصة «دينا» تخرج ليلا لتوزيع لحوم علي الفقراء، وسائق نصاب خفيف الظل، لكنه شهم ولن يخذلك وقت الضيق، وطفل يضع لبطل الفيلم مياها عادية في زجاجات المياه المعدنية، لأنه يصدق ويؤمن بأن من يشرب من ماء النيل سيعود إلي مصر ثانية، ومصور فوتوغرافي عجوز مازال مؤمنا بأن مصر ليست أجمل بلاد الدنيا، لكنه يحبها ويعشق ترابها.. كل شخصية في الفيلم تحمل أكثر من قيمة تتناقض مع بقية ما تحمله، وأكثر من صفة عكس باقي صفاته، وأكثر من موقف يربك من يشاهد. تعمد الفيلم أن يظهر التناقض في الشخصية المصرية، فخلط بين القيم والمواقف والصفات داخل كل شخصياته.. ارتبكت حقا واحترت هل أحب هذه الشخصيات أم أكرهها، لكني وجدت نفسي في بعض منها، وأحمل كل صفاتها المتناقضة.. خرجت من «عسل إسود» وأنا أحب هذا البلد أكثر وأعشق ترابه وهواه الملوث ومياهه التي تحمل رائحة المجاري، وأحببت حتي صورتي السخيفة التي لا تعبر عني، وهي موضوعة علي رقمي القومي، بل والأسوأ أنني صرت فخورة بأنني أملك رقما قوميا! قد أكون عاطفية أكثر من اللازم، وقد يندهش كل من يعلم أنني ضد نهاية الفيلم وضد قرار البطل الذي اتخذه في النهاية، ولن أحرقه علي المشاهد، لكن أجمل ما في هذا الفيلم أنه فسر لي وأجاب عن سؤال: لماذا نحب هذا البلد الذي يكرهنا حتي الآن؟ ولماذا ننفعل وتقفز عروقنا من أماكنها دفاعا عنه وعن كل من يهاجمه بعد كل ما يفعله بنا وفينا؟ أكد لي الفيلم أننا لا نحب مصر ذلك الحب الأبله، ولكننا نحبها لأنها تشبهنا.. حالها مثل حالنا، فنحن أجمل من صورنا المكفهرة علي الرقم القومي، وهي أجمل من شوارعها القبيحة ومن يمتلكون تحديد مصيرها وتشويهه.. تكرهنا وتحبنا - في نفس ذات الوقت - تطردنا وتبكي علينا ونبكي عليها.. نرغب في أن نموت فيها «هي مصر قرافة؟!»، وأن نحيا بعيدا عنها.. نحن فيها بلا ثمن ولا قيمة ولا كرامة، وعندما نهجرها نفرح بمصريتنا ونفتخر بها.. فقط ونحن خارجها! نعم نحن كل شخصيات هذا الفيلم بطيبتها وإنسانيتها وسذاجتها وأمانتها وصدقها وحنانها ودهشتها وكرمها وإيمانها وأملها ونبلها.. ونحن كل هذه الشخصيات بعنفها ونصبها وكذبها وقسوتها وبخلها وخستها ويأسها وكفرها بالمستقبل، لكننا حقا شغوفون بالحياة في الحالتين وننتظر من يمسح عنا تراب الأيام «السودة» ويسقينا عسل العيشة المرتاحة الذي لا شك أننا نستحقها.. بالتأكيد سيأتي اليوم الذي نهب فيه لاقتناص حياتنا ممن سرقوها، وحتي يأتي هذا اليوم سنظل مشحونين بكل غضبنا وشجننا وبهجتنا ورضانا، الذي ساهم «عسل إسود» في إحياء شعلتهم في نفوسنا.. «عسل إسود» فيلم كوميدي لم أكف عن الضحك أثناء مشاهدته، وأصابني بالشجن بعد مشاهدته.