يعرف أي قارئ للتاريخ أن مليون مدني أو يزيد ممن شاركوا في الأحزاب التي شكلت الحكومات في أزهى عصور الليبرالية التي تلت حكم محمد علي باشا الكبير لم يقدموا لمصر دون مبالغة واحدا على ألف مما حققه هذا العسكري الألباني الأمي ، ويعرف أي باحث مبتدئ في التاريخ أن عودة الأحزاب المدنية في عهد السادات لم تفلح في الحفاظ على مكتسبات و انجازات جمال عبد الناصر العسكري الثائر على فساد الحياة المدنية لاستعادة و استكمال ما بدأه العسكري الألباني . إننا أمام أكاذيب تاريخية أصبحت مسلمات من كثرة ترديدها ، و منها أن الحكم العسكري أعاد مصر إلى الوراء ، و الحقيقة الواضحة لكل ذي عينين أن مصر في خلال قرنين من الزمان لم تعرف إلا اثنين من العسكريين صنعوا نهضتها ، هما محمد على باشا و جمال عبد الناصر ، و عرفت مئات القادة المدنيين الذين خانوا وباعوا و فرطوا و تحالفوا مع القصر و الانجليز و البوليس السياسي و الغرب و حزب الحكومة و أمن الدولة و الأمريكان و طوب الأرض ، للوصول للسلطة على جثة هذا الوطن ، ثم لم يقدموا له شيئا .
من يرى أن حكم أسرة محمد علي هو امتداد لحكم محمد علي هو جاهل ، لأن تجربة محمد علي انتهت بعزله ووفاة ابنه ابراهيم باشا ، ومن يرى أن السادات و مبارك امتداد لحكم ثورة يوليو و تجربة عبد الناصر جاهل ، لأن ثورة يوليو انتهت بوفاة زعيمها جمال عبد الناصر ، و السادات في انقلابه المدني على التجربة الناصرية لم يستعن بالمؤسسة العسكرية ، وانما استعان بتيار اليمين الديني ، و استبدل سيد مرعي و عثمان أحمد عثمان بأعضاء مجلس قيادة الثورة ، للارتماء في احضان الحليف الأمريكي و الوصول الى الدولة الرخوة ، ثم جاء مبارك ومد الخط على استقامته ، فظهر مشروع التوريث لابعاد قيادات المؤسسة العسكرية عن كرسي الرئاسة إلى الأبد ، وورث الإخوان مبارك ، فوصلنا إلى الدولة الفاشلة طبقا للمخطط الأمريكي .
المدنيون الطامعون في رئاسة الدولة و إبعاد العسكريين عن السلطة كالتلميذ الخائب ، الذي يرفض النظام المدرسي ، الذي يلزمه بالاستيقاظ مبكرا، و الوقوف في طابور الصباح ، والالتزام بجدول الحصص ، و كتابة الواجبات ، و يريد أن يستلهم تجربة المثقف الكبير محمود عباس العقاد ، حيث لا مدرسة ولا طابور صباح ولا واجبات ، ويريد أن يعمم الاستثناء ليصبح القاعدة ، ثم هو يريد أن يكون له دور في قيادة المدرسة بعد إزاحة الناظر ، الذي يفرض على التلاميذ هذا النظام الصارم ، و ينسى هؤلاء الطامعون أن الحكم المدني قام في الغرب بعد استقرار الدول على أيدي المؤسسات العسكرية ، التي خاضت حروب أهلية و صراعات طائفية مهدت للوحدة والديموقراطية و الحرية ، و أن الحياة الليبرالية في مصر هي نتاج الدولة الحديثة ، التي رعاها جيش مصر في عهد محمد علي .
هؤلاء الجهلة بحقائق التاريخ يستشهدون بالغرب ، لإبعاد المؤسسة العسكرية عن دائرة الحكم ، وينسون أن جيوش الغرب هي جيوش استعمار و احتلال و نهب ، في حين أن الجيش المصري هو جيش تحرر وطني ، حمى الأرض و أسس لنهضات كبرى على مدار التاريخ ، ومحاولة إخراجه من المعادلة السياسية هو هدف غربي ، لإضعاف الدولة وتفكيكها ، و ينسون أو بالأحرى يتناسون أن جيوش العالم المتقدم رجعت إلى الثكنات بعد أن ابتعدت كل الجيوش المعادية عن تهديد دولهم ، و مع ذلك يظل البنتاجون بقواعده العسكرية المنتشرة في كل بقاع العالم هو أقوى مؤسسة في أمريكا ، و لا يجرؤ جون ستيوارت أو أحد من أمثاله أن يسئ إلى رئيس أركان الجيش الأمريكي ، أو أصغر عسكري مارينز بنصف كلمة .
هؤلاء الفاشلون من المدنيين الذين عجزوا عن إنشاء كيان حزبي واحد ، يعبر عن جموع المصريين ، يريدون أن يصلوا إلى رأس الوطن ليمزقوه و يفتتوه و يقسموه ، كما هو الحال في كياناتهم الحزبية الهشة ، قد يتحججون بأن مؤامرات السلطة هي التي منعتهم من الحفاظ على وحدة أحزابهم و العمل على تقويتها ، والسؤال : إذا كانت هذه هي حجتكم ، فهل سيترككم الغرب المتآمر تحافظون على وحدة أوطانكم ؟!!.
كلنا ضد الاستبداد ، ولكن إلصاق هذه الصفة بالعسكريين كذب ، لأن المؤسسة العسكرية لا تبني قراراتها على استبداد ، وإنما على علوم ومعارف عسكرية و تقارير و مناقشات القادة المؤهلين ، دون رجوع لعساكر لا علم ولا خبرة و لا دراية لديهم . المدنيون الآن كالعساكر الذين يريدون قيادة الجيوش ، بحجة أنهم متساوون في الحقوق و الواجبات مع الضباط ، و أنهم هم الغالبية داخل الجيش ، و أنهم الأكثر تضحية من حيث عدد الشهداء ، و بالتالي يحق لهم تولي المسئولية ، لاستبداد القيادة في اتخاذ القرار ، أو لحزم القيادات المفرط في التعامل مع العساكر . هو صراع على السلطة بين مؤهلين للقيادة و متربصين غير مؤهلين حتى للانتماء إلى هذا الوطن ، تحركهم شهوة الحكم والمال و السطوة لقتل هذا البلد بدم بارد .
إن الذين يتكلمون عن فساد و استبداد الحكم العسكري ينسون أن صدام حسين كان حاكما مدنيا ، لا علاقة له بالعسكرية ، و ينسون أن أحمد عز و المغربي و جرانة و كل رموز الفساد في الحكومات المصرية المتعاقبة كانوا مدنيين .
خلاصة القول إن قوى دولية عظمى ترفض أن يلعب الجيش دورا في حماية وحدة مصر و استقرارها ، لأن الهدف هو إضعاف الدولة وتقسيمها ، بعد تدمير الجيش المصري ، الذي يمثل عقبة في وجه مؤامرات الأمريكان والصهاينة ، باعتباره أقوى جيش عربي الآن بعد تدمير الجيشين العراقي والسوري ، يساعدهم في ذلك قطر و تركيا و جماعة الإخوان و أتباعها من الجهلاء و العملاء و الإرهابيين ، والله حائل بينهم وبين ما يريدون .
على أن التأييد الشعبي الذي يحظى به الجيش المصري يمهد لاستمرار المؤسسة العسكرية في تدعيم الحياة السياسية بمزيد من القادة المؤهلين لقيادة الوطن ، بوصفها المؤسسة الوحيدة في مصر المؤهلة لأداء هذا الدور ، في ظل عجز النخبة الرافضة لحكم العسكريين عن تقوية أحزابهم ، وعن إقناع الشعب بقدرة أحدهم على تولي منصب الرئيس ، و موعدنا الإنتخابات الرئاسية القادمة التي سيقول فيه الشعب لهذه النخبة : إلعبوا بعيد عن كرسي الرئاسة ، خلوا السيسي يعرف يشتغل .