فى عيد ثورة يناير أكمل يوسف شاهين عامة رقم 88، من المؤكَّد أن الحياة لو امتدت به لشاهدناه على كرسى متحرك يوم 25 يناير 2011 داخل ميدان التحرير ليطفئ تلاميذُه ومحبوه شموع الميلاد على أصوات طلقات الرصاص والقنابل المسيلة للدموع. كان معارضًا شرسًا لنظام مبارك، وكان ممنوعًا من الظهور على الهواء بتعليمات مشدَّدة خوفًا من انفلات لسانه، إلا أن ما يتبقى مع مرور الزمن قبل وبعد مواقفه السياسية هو المبدع يوسف شاهين. لو أنك حلَّلت كراته الدموية وخلاياه وأنسجته فلن تجد كما يعتقد البعض لقطات وزوايا وشاريوه واستوب وأكشن وكلاكيت، ولكنك ستعثر على سُلَّم موسيقى ومفتاح صول ومقامات شرقية وغربية وإيقاعات بلدى وتانجو وفالس وروك آند رول، إنه الموسيقار يوسف شاهين الذى ظل يخدعنا متنكرًا فى صورة المخرج يوسف شاهين.. إنه مبدع الموسيقى المرئية عبر الشريط السينمائى، وتلك هى السينما فى عمقها ونقائها!
العلاقة مع يوسف شاهين لا تعرف الوسط، إما أن تتحول إلى أحد الدراويش وتدور فى فلكه، وإما أن تقف بعيدًا ترفض وتتحفظ وتنتقد فتصبح خارج المدار وغير مسموح لك أن تدخل إلى المجرة، وأنا كنت أقف دائمًا خارج المجموعة الشمسية الشاهينية.
أرصد سينما يوسف شاهين دائمًا من الجانب الآخر متمتعًا بقدرتى على الحياد، فأنا لست من الذين تأخذهم نشوة الإعجاب إلى حد الدروشة فى حلقات الذكر الشاهينية، لهذا أقدِّر سينما هذا الفنان بقدر لا بأس به من الانتقاد، لأن التقدير يحمل فى داخله مشروعية التقييم والاختلاف، على عكس التقديس أحادى النظرة والزاوية، استطاع «جو» -كما كان يفضل أن يناديه الأصدقاء- طوال مسيرته فى السينما أكثر من نصف قرن أن يحافظ على قدرته على التنفس ليسبح خارج السياق أحيانًا وبعيدًا عن السباق دائمًا، فهو لا يسابق أحدًا سوى يوسف شاهين!
إنه شخصية «كاريزمية» لها تأثير مغناطيسى على كل من يعرفونه أو يقتربون منه، إذا دخلتَ إلى مملكته عليك أن تعرف أن الخلاف مع يوسف شاهين هو المستحيل الرابع بعد الثلاثة الشهيرة «الغول والعنقاء والصديق الوفى»، فهو لا يتقبل بسهولة أن تقف على الجانب الآخر مما يعتقد هو أنه صحيح، رغم أنه دائمًا ما يرفع شعار الديمقراطية والرأى والرأى الآخر، إلا أنه يعتبر نفسه هو المرجعية الوحيدة، ودائمًا هو الرأى والرأى الآخر أيضًا.
أتذكر عندما كتبت على صفحات مجلة «روزاليوسف» مقالًا عنوانه «سكوت حنهرّج» أن نالنى منه الكثير من الهجوم على صفحات الجرائد والمجلات والمحطات الأرضية والفضائية، رغم أننى سألته فى حوار مسجَّل صوتًا وصورة بعدها بخمسة أعوام عن أسوأ أفلامه الذى لا يطيق أن يشاهده فأجاب دون تردُّد «سكوت حنصوّر»، ولكنه لا يسمح أن يقولها أحد غيره، يدعو على فيلمه ويكره اللى يقول آمين!
هذه التركيبة الإنسانية علينا أن نأخذها كما هى بلا فصال وبلا تفصيل، بحلوها الذى لا يخلو من مرارة، ومرها الذى به مذاق الحلاوة، أنت ترى على الشاشة يوسف شاهين الإنسان، لا أعنى بذلك رباعيته «حدوته مصرية» و«إسكندرية ليه» و«إسكندرية كمان وكمان» و«إسكندرية-نيويورك»، ولكننى أشير إلى ما يربو على 40 فيلمًا قدمها للسينما كلها تنطق وتهتف، بل تصرخ باسم يوسف شاهين، فى حركة الكاميرا، أداء الممثل، من خلال هذا التفرُّد الذى يجمع بين إيقاع الكاميرا وإيقاع الفنان الذى يقف خلفها، الرؤية التشكيلية فى الكادر، الوهج البصرى والسمعى... كلها مفردات تقول دائمًا إن يوسف شاهين كان يوجِّه ويحلِّل ويحدِّد اللقطة ويراجع أداء الممثل، إنه البصمة الفنية التى لها سحر ومذاق لا تخطئهما العين ولا المشاعر.
إنه المبدع الذى استطاع أن يطير خارج السرب متحديًا كل العوائق والعواصف وأيضًا المؤامرات، فلقد طالب يومًا ما البعض بسحب جواز السفر المصرى بسبب فيلمه «القاهرة منورة بأهلها» عام 1991 وعرضه بعيدًا عن الرقابة فى قسم «أسبوعى المخرجين» فى مهرجان «كان» بحجة الإساءة لسمعة مصر ونشر غسيلها القذر خارج الحدود، وشىء من هذا حدث أيضًا لفيلمه الأخير «هى فوضى» 2007، ولكن لم يجرؤ أحد أن يكررها. من الممكن أن يأخذوا من يده جواز السفر، ولكن لن يستطيع أحد أن ينزع مصر من قلبه. كل لقطة وأنت طيب يا أستاذ، مهما كان عنوانك فستصل إليك رسالتى، فأنت كما كتبتَ على قبرك «الإنسان اللى مالوش عنوان»!