ربما كان كتاب «يوسف شاهين نظرة الطفل وقبضة المتمرد» للكاتب والناقد السينمائى الكبير إبراهيم العريس، والذى صدر أخيرا عن «دار الشروق»، ليس الأول الذى يتناول سيرة المبدع الراحل، كما أنه لن يكون الأخير بالتأكيد، غير أنه يحمل نكهة خاصة كونه يتزامن مع الذكرى الأولى لرحيل المخرج الأسطورة، فضلا عن أنه لم يكتف بتقديم سيرة ذاتية وفنية لحياة شاهين، وإنما اخترق الأعماق، وغاص فى تجربته السينمائية ومراحل تطورها بدرجة يمكن اعتبارها دراسة تحليلة للتجربة الشاهينية فى السينما العربية. لم يكن لدى الكاتب إبراهيم العريس وقتا يضيعه عندما اختار تلخيص تجربة المخرج الراحل يوسف شاهين، فاختار تقسيم حياة شاهين لمراحل سينمائية، وبدأها بالدخول فى العمق بلا مقدمات طويلة قد تدفع القارئ إلى الملل، فاعتبر أن شاهين بفيلمه الأول «بابا أمين» كان السبب فى الإعلان عن نجم سينمائى جديد وهو «المخرج»، رغم وجود مبدعين كبار فى هذا المجال مثل صلاح أبوسيف وبركات ونيازى مصطفى، غير أن شاهين أعلن ولادة المخرج الذى يستقى من نظرته إلى العالم فارضا على السيناريو رؤيته حتى وإن كتبه مبدعون كبار. وأضاف الكاتب أنه رغم أن شاهين، والذى لقبه فى هذه المرحلة ب «المشاكس منذ البداية»، وهو يخرج فيلمه الأول «ابن النيل» لم يكن يتوقع أنه بعد خمسين عاما سيكرم من مهرجان كان كواحد من كبار مبدعى السينما فى العالم إلا أن طفولته السكندرية علمته أن يحلم ويجد الطريقة التى يحقق بها أحلامه. اختلاط الأنواع أما المرحلة الثانية فى سينما يوسف شاهين كانت مرحلة «اختلاط الأنواع» والتى أعقبت قيام الثورة مباشرة ولم يتخذ فيها شاهين موقفا محددا تجاهها ثم فى الفصل الثالث والذى بعنوان «فى قلب الكوميديا الموسيقية» وفى مناقشته لهذه المرحلة طرح المؤلف سؤالا مهما: ما الذى يدفع شاهين بعد النجاح الذى حققه فى «صراع فى الوادى» و«صراع فى الميناء» وهى الأفلام التى تناقش واقع اجتماعى أن يقدم فيلمين ينتميان للكوميديا الموسيقية من إنتاج وبطولة فريد الأطرش. العريس رأى أن السبب فى هذا أن الكوميديا الموسيقية كانت منذ البداية واحدا من اهتمامات شاهين الأساسية ولذلك كان يحرص على تقديمها فى أفلامها بشكل مبرر أحيانا وغير مبرر أحيانا أخرى وهذا يرجع إلى تأثره بالمخرج والممثل والراقص الأمريكى «جين كيلى»، أيضا يجب التنويه أن فيلم مثل «ودعت حبك» والفيلم التالى له « إنت حبيبى» ما كان لهما أن يدخلا تاريخ السينما لولا أن يوسف شاهين هو من أخرجهما. إلا أن المؤلف عزا فى الوقت نفسه قبول شاهين لإخراج هذين الفيلمين إلى دوافع معيشية بحتة فبعد «إنت حبيبى» الذى يعتبر أكثر أعماله سذاجة حقق شاهين «باب الحديد» الذى فشل نقديا وتجاريا ثم فيلم «جميلة الجزائرية» والذى رغم نجاحه التجارى فإنه ظل يؤكد أنه غير مقتنع به وتلاه بفترة «عالم الميلودراما الكئيبة» من حياته حقق فيها أربع ميلودرامات فى الفترة التى كان يشعر فيها بأقسى درجات الضياع ويسأل نفسه عن جدوى كل ما يفعله. فيوسف شاهين فى معظم أحاديثه الصحفية الشاملة، كما يقول الكاتب، كان قد اعتاد على التأكيد على سوداوية هذه المرحلة سواء على المستوى المهنى أو الشخصى فهو يعتبر أن الأفلام التى حققها فى هذه الفترة هى الأسوأ فى تاريخه، فرغم أن هذه المرحلة كانت صغيرة نسبيا حيث كانت ثلاث سنوات، فإنها كانت من أغزر سنوات حياته من حيث الكم حيث قدم فيها أربعة أفلام مع أبرز نجمات السينما المصرية وقتها وهن: نادية لطفى وماجدة وسميرة أحمد وبرلنتى عبدالحميد إلا أن هذا لم يرض شاهين إذ ظل يردد أنه ما عمل فى هذه الأفلام إلا مشمئزا وفى سبيل لقمة العيش لا أكثر. عالم الأيديولوجيا والقضايا ينتقل الكتاب فى الفصل الخامس والذى يحمل عنوان «عالم الأيديولوجيا والقضايا» إلى العلاقة بين يوسف شاهين وفكر الثورة التى قامت أثناء إعداده لفيلميه الثانى والثالث «ابن النيل» و«المهرج الكبير» وقد أخذ شاهين فترة ليتجاوب معها قدم فيها فيلمين آخرين وهما «سيدة القطار» و«نساء بلا رجال» ثم بدأ منذ عام 1954 يقدم ثلاثية عن الصراع ينتصر فيها دائما الشعب وممثلوه حتى وإن كانوا أبطالا فرديين على السلطة الجائرة سواء كانت «باشا إقطاعيا» كما فى «صراع فى الوادى» أو «ملكا» كما فى «شيطان الصحراء» أو «مدير شركة احتكارية» كما فى «صراع فى الميناء». ويرى العريس أنه بهذا يكون قد ساير السلطة متمثلة فى الثورة التى كان من أهم شعارتها النضال ضد الإقطاع والملك والشركات الاحتكارية وغالبا تم هذا عن اقتناع بهذه المبادئ مما يفسر كون إدانته للسلطة لاحقا ومنذ هزيمة 67 كانت شديدة القسوة، ففى الفصل السادس والذى يحمل عنوان «سيمفونية الهزيمة» تحدث الكاتب عن المرحلة التى بدأت عام 1969 وانتهت سنة 1976 وقدم فيها أربعة أفلام وهى «الأرض»، «الاختيار»، «العصفور»، وعودة «الابن الضال» وهى الأفلام التى تعزف سيمفونية «الهزيمة»، ففى فيلم الاختيار والذى تشارك فى كتابته « يوسف شاهين» و«نجيب محفوظ» فى فترة كان يبحث فيها المثقفون عن «مشجب» ما يعلقون عليه أسباب الهزيمة ويصل شاهين ومحفوظ فى هذا الفيلم إلى أن السبب يكمن فى انفصامية المثقف المصرى، وهو سبب أشار له سابقا فى فيلم «الأرض». وفى الفصل السابع الذى حمل عنوان «داخل الذات المشاكسة» يكمل العريس الحديث فى نفس الموضوع طارحا تساؤلا: ترى حين جلس يوسف شاهين يشاهد النسخة الأولى من «عودة الابن الضال» شعر أنه أخيرا صفى حسابه مع الهزيمة؟.. ويكمل قائلا: هو لن يجيب أبدا عن هذا السؤال ولكن من المؤكد أن أربعة أفلام حققها كانت كافية له. ثم ينتقل الكاتب ليتحدث عن أفلام السيرة الذاتية ليوسف شاهين والتى تضم الرباعية «إسكندرية ليه؟»، «حدوته مصرية»، «اسكندرية كمان وكمان»، وأخيرا «إسكندرية نيويورك» إلا أنه يشير فى الوقت ذاته إلى أن شاهين استعار كثيرا من صورة بيئته العائلية وشخصية أبيه وطفولته فى أفلامه السابقة مثل فيلم « «ابن النيل» و«العصفور» و«عودة الابن الضال». فقد كان علينا أن ندرك كما أوضح الكاتب فى الفصل الثامن الذى حمل عنوان «التاريخ، الأنا والآخر» أن سينما شاهين خدمته كمكوك يستقله ليقوم فيه برحلاته عبر التاريخ سواء كان تاريخا سياسيا كما فى «جميلة» وثلاثية الهزيمة، أو تاريخا شخصيا كما فى الثلاثية الذاتية أو أفلاما تتناول تاريخ ما قبل القرن العشرين كما فى الرباعية: «الناصر صلاح الدين»، «وداعا بونابرت» و«المهاجر» و«المصير». وبعد أن تحدث عن «التاريخ» فى الفصل الثامن تناول الكاتب فى الفصل التاسع عن «شىء من ما بعد الحداثة» عند يوسف شاهين بادئا حديثه بتحقيق شاهين لواحد من أهم أحلامه الدائمة وهو الفوز بجازة سينمائية كبيرة فى مهرجان دولى كبير وهو الذى تحقق فى مهرجان كان سنة 1997 عندما منحه المهرجان «السعفة الذهبية» الخاصة بخمسينية المهرجان. ما بعد الحداثة فى هذه المرحلة من حياته والتى يمكننا أن نسميها بمرحلة «ما بعد الحداثة» قدم شاهين أربعة أفلام وهى «اليوم السادس»، «الآخر»، «سكوت هنصور»، «هى فوضى؟» وهو فيلم كما يرى المؤلف من المحزن أن يكون فيلم الخاتمة لحياة هذا الفنان الكبير فهو لا يعتبر فيلما «شاهينيا» إلا فى بعض لحظاته ومواقفه، ولذلك فهو يرى أن إصرار يوسف شاهين على اسم خالد يوسف على الفيلم موازيا لاسمه لم يكن تواضعا منه واعترافا بجميله ولكنه كان فعلا متعمدا كى يحد من مسئوليته عن الفيلم لأن نتيجة هذا العمل المشترك لم تكن شاهينية تماما. أما الفصل العاشر والأخير والذى حمل عنوان «شاهين على موجات قصيرة» فتحدث فيه الكاتب عن إنتاجات شاهين فى الأفلام القصيرة، والذى يؤكد فى الوقت نفسه أنه لم يكن من هواتها ولكنه حقق منها نصف دستة من الأفلام مركزا على عملين منها وهما «الإسكتش» الذى حققه شاهين ضمن مشروع فرنسى عن أحداث سبتمبر 2001 والآخر الذى حققه ضمن مشروع ابتكره رئيس مهرجان «كان» السينمائى والناقد جيل جاكوب فى عنوان «لكل سيماه». ففى الأول أتيحت لشاهين فرصة محاسبة أمريكا التى كان يتوق لها كثيرا مما أسفر عن عمل زاعق أيديولوجى لم يقنع إلا الذين عرفوا دائما بعدائهم المطلق للولايات المتحدة وعدوانيتها، أما الثانى والذى كان الأخير فى مسيرة شاهين كانت مدته ثلاث دقائق يحكى فيها المخرج حكاية له مع السينما فاختار فيه شاهين أن يروى مشهدا وذكرى يتعلقان بالحلم الذى تحقق له، حين أعطاه مهرجان «كان» سعفة خمسينيته الذهبية عن مجمل أعماله مما وفر له رضا عن الذات كان يسعى إليه من أول إطلاله له على عالم السينما.