أشعر بالغصة وخيبة الأمل كلما علمت بعمل فني جديد تم تمصيره عن أصل أجنبي؛ ذلك أنه أمر يوحي - علي غير الحقيقة - بأننا نفتقر إلي أعمال مصرية أصيلة؛ أو بأن عقول مؤلفينا قد نضبت وباتت تتكاسل وتستسهل الاقتباس عن نص أجنبي جاهز، ولكن ربما أن الحالة المسرحية العامة مازالت تخيف المخرجين وأصحاب القرار في القطاعين العام والخاص من المغامرة بتقديم نصوص جديدة لا يدرون إن كانت ستساهم في جذب الجمهور الذي بدأ يعود إلي المسرح ويحتفي به، أم أنها ستذهب به وتعيد حالة الخصام من جديد. برغم ذلك فإن حالة المتعة التي تشعر بها عندما تشاهد عملا مقتبسا - جيد الصنع - تظل حالة خاصة وربما ضرورية؛ تماما كمتعتك عندما تقرأ كتابا مترجما عن إحدي روائع الأدب العالمي. هذا ما حققه لي عرض «قطط الشارع" المأخوذ عن «أوليفر تويست» الرواية الشهيرة للكاتب الإنجليزي «تشارلز ديكنز» التي تناولت أحوال أطفال الملاجئ في إنجلترا منذ نحو قرن ونصف؛ والتي - للمفارقة - تعبر عن أحوال أطفال الشوارع في القاهرة الآن! علي حد وصف مقتبسها وممصرها الشاعر بهاء جاهين في كلمته التي ضمنها «بامفليت» العرض، والذي استطاع كونه شاعرا أن يضفي علي الحوار سحراً موسيقياً خاصاً بكلماته المنغَّمة التي تقترب من الشعر الخالص؛ فلا تكاد تشعر بأن هناك انفصالا بين الحوار العادي وبين التابلوهات الاستعراضية التي أتقن توظيفها بحيث تمهد لحدث قادم أو تعبر عن حالة أو تنقلك إلي حالة جديدة، وبرغم اتساع خشبة مسرح البالون إلا أن المخرج الاستعراضي عادل عبده لم يجعل من هذا الاتساع عبئاً علي عينيّ المشاهد؛ فقد نجح في توزيع الحركة بشكل أثري المشهد المسرحي وبغير تكلُّف؛ ساعده في ذلك الديكور المعبر الذي صممه محمد الغرباوي.. الاستعراضات هي البطل في العرض؛ ولم يكن مفاجئاً أن تخرج بكل هذا الإتقان علي مستوي الحركة وأيضاً الموسيقي التي وضعها حسن دنيا ويحيي غانم؛ بخلاف عذوبة كلمات بهاء جاهين. سمير صبري يتقن بلا شك التواصل مع الجمهور؛ وقد بدا مجتهداً آخذاً الأمر بجدية، غير أن تلبُّسَه لروح أنور وجدي أفسد ذلك في بعض الأحيان؛ كذلك بدت دوللي شاهين متقمصة لأداء شريهان الاستعراضي وحتي التمثيلي! اجتهدت دوللي في أن تقدم نفسها كفنانة استعراضية؛ فنجحت بحد مقبول؛ لكنها لم تتجاوز حدود الأداء البارد للحركات؛ بينما جاء غناؤها دافئا ومعبرا. القدير جمال إسماعيل - كعادته - يصنع مع الجمهور حالة حميمية تتجاوز حدود خشبة المسرح، واستطاع ممدوح درويش أن يحقق حالة مشابهة، بحضوره الخاص وخفة ظله. أما بطلا العرض الطفلان مروان وكريم فقد بديا واثقين متقنين للأداء بدرجة أدهشتني؛ وأتاح لي جلوسي بالقرب من خشبة المسرح أن أرقب تعبيرات وجهيهما عن كثب؛ وأعترف بأنني كنت أبحث - عن عمد - عن أي خطأ تفرضه قوانين الطفولة؛ فما وجدت إلا أداء ناضجا يستحق الإعجاب! وبشكل عام، فإن حضور مجموعة الأطفال منح العرض بهجة خاصة؛ وبدا واضحا المجهود الذي بذل في تدريبهم وتوظيفهم علي خشبة المسرح. لم ينجُ العرض من الإفيه - إياه - حول الشخصيات الحقيقية للممثلين! وبرغم أنه هنا جاء عابرا في غير استرسال ولا استخفاف بالجمهور؛ إلا أنني لا أري ضرورة لحشره في كل عرض بعد أن بات مكررا ماسخا كالنكتة القديمة البايخة. أمضيت ثلاث ساعات في مسرح البالون تصاحبني ابتسامة وإحساس بالبهجة مع ضحكات قليلة من دون إسفاف أو ابتذال ومع عرض اجتهد كل من ساهم فيه احتراما لفنهم وللجمهور.. عرض يقول إن مسرح الدولة يستطيع أن يمنح أبا الفنون عمرا جديدا أكثر شبابا؛ وأن يصالح المتعة دون أن يخاصم الإبداع!