إذن مشهدنا المصري (والعربي كله للأمانة) الذي لا يسر عدواً ولا حبيباً واختزل الرئيس حسني مبارك أسوأ وأخطر ملامحه في خطاب يوم الخميس الماضي، هذا المشهد ربما نكون بسبب اليأس وتراكم طبقات الزمن تعودناه ، لكن جراح الحسرة الراقدة في عمق قلوبنا تستثار وتتهيج بعنف عندما تداهمنا أو تلفت نظرنا مشاهد من أحداث العالم الذي يموج من حولنا بالحركة بينما نحن ثابتون نغوص من ثقل الجمود في قاع المكان عينه الذي تحجرنا فيه.. هذا تماما ما حدث لعبد الله الفقير حين لاحظت مفارقة أن الرئيس مبارك كان يبدي كل هذا العناد والعداء للتغيير الديمقراطي السلمي بعدما أمضي ثلاثة عقود يحكم البلاد علي النحو المأساوي الذي نعرفه، وفي اليوم نفسه ذهب الشعب البريطاني المقيم معنا علي كوكب الأرض إلي صناديق الاقتراع (لم يقتله أحد علي أبواب اللجان) ليغير ويسقط «حزب العمال» من مقاعد سلطة تربع عليها ثلاث دورات انتخابية متتالية لم يتجاوز مجموع سنواتها 13 عاماً!! هل كان الملل والرغبة أو النزوع الفطري الجماعي لتغيير منظر المسرح السياسي هو ما دفع الناخب البريطاني لإزاحة حزب العمال من السلطة حتي من دون أن يمنح ثقته الكاملة لمنافسه اللدود «حزب المحافظين» علي ما تشير الأغلبية البرلمانية غير الحاسمة (306 من مجموع 650 مقعداً في البرلمان) التي حققها هذا الأخير؟! في الواقع هناك دراسات علمية جادة لا تستبعد تماماً عامل الملل (ضمن عوامل أخري غير موضوعية) من ممارسة بعض التأثير في سلوك الناخبين في المجتمعات الديمقراطية المستقرة، بل إن نفراً من المفكرين يذهبون إلي أن التعبير السياسي عن «الزهق والملل» حق إنساني مشروع لا يجب أن يثير الاستهجان، ومع ذلك فإن هذا العامل (مع عدم استبعاده كلياً) لم يكن طبعاً صانع نتائج الانتخابات البريطانية الأخيرة التي غزتها مظاهر أمركة نادرة لا تخطئها عين، مثل المناظرات التليفزيونية بين زعماء الأحزاب الرئيسية المتنافسة، والحضور غير المسبوق لزوجات هؤلاء الزعماء واستخدامهن في حملات الدعاية الانتخابية..إلخ. لقد كان الدافع الأساسي والرئيسي لقيام الشعب البريطاني بمعاقبة حزب العمال حسب الظاهر من المعطيات التي جرت الانتخابات في ظلها هو اكتشاف قطاعات واسعة من الجمهور حجم الزيف والمخاتلة الراقدة في أحشاء فكرة «الطريق الثالث» التي سوقها الزعيم العمالي الشاب توني بلير بمهارة فائقة في انتخابات عام 1997 (لم يكن عمره تجاوز ال43 عاماً آنذاك) واستخدمها كسلاح فعال في إنهاء الحقبة «التاتشرية» ذات الصبغة اليمينية المتشددة والتي ارتبطت باسم الزعيمة الحديدية لحزب المحافظين «مارجريت تاتشر» إذ ينسب لهذه الأخيرة أنها وضعت مع الرئيس الأمريكي المعاصر لها «رونالد ريجان» الأساس القوي لما يسمي «النيوليبرالية» وإنزال قوانين السوق المنفلتة من أي قيد منزلة التقديس وتحويل «الخصخصة» إلي دين وديدن الطور المتوحش المعاصر من الرأسمالية ذلك الذي أصاب البشرية جمعاء بكوارث لم يكن آخرها ولا أسوأها الأزمة المالية العالمية بكل تداعياتها المستمرة حتي الآن (انظر ما يحدث في اليونان). لكن نظرية «الطريق الثالث» التي روجها بلير حاولت أن تبيع للناس بديلا «لفظيا» للتاتشرية والريجانية يقوم علي ادعاء وجود «شيء آخر» مبهم بين الرأسمالية التي فرضت ملامحها المتوحشة علي العولمة الجديدة وبين الأفكار الاشتراكية التقليدية، هذا الشيء هو نفسه «الطريق الثالث» حيث لا داعي لمعاداة عقيدة السوق بل احترامها مع ترشيدها ما أمكن، غير أن ما حدث في الواقع أن «التاتشرية» استمرت في عصر بلير مع بعض الزواق، وواصل حزب العمال تنفيذ مهمة تحرير الأسواق المالية وغيرها، وخفض الضرائب علي الأغنياء وتطويع سوق العمل ليناسب نهم وطمع أصحاب الأعمال، فضلاً عن خصخصة وتفكيك الخدمات العامة وإنهاء مكاسب «دولة الرفاه»..(لاحظ التشابه مع ما تفعله «سياسات» جمال مبارك عندنا). باختصار.. لقد اكتشف الناخب البريطاني أن «العمال» نشلوا ثقته بعدما نشلوا برامج وسياسات المحافظين واليمين عموماً ونفذوها هم بحذافيرها، ثم أكملوا الجريمة بالسقوط الأخلاقي المروع عندما ذهبوا إلي أبعد مدي في زيل الرئيس الأمريكي المدحور جورج دبليو بوش وعصابته وخاضوا معه حروبه العبثية في العراق وأفغانستان..لذلك كله جاءت نتيجة الانتخابات الأخيرة في بريطانيا عقابية أكثر من كونها تصنع بديلاً. وعقبالنا يارب..