في أرشيف الإذاعة كنوز ثقافية مهمة، برامج حاورت نجوم مصر الحقيقيين ورواد التنوير في العصر الحديث، رحل معظمهم وبقيت وجهات نظرهم ورؤاهم المتفردة حبيسة أشرطة تسجيلات إذاعية، تروقني كثيراً فكرة تفريغ هذه الشرائط ونشر محتواها في كتب، ومؤخراً طرحت دار الفاروق حوارات الشاعر عمر بطيشة مع بعض هذه الأسماء في برنامجه الشهير (شاهد علي العصر) ، وبالرغم من أن هذه الحوارات أجريت في النصف الأول من الثمانينيات فإنها عابرة للسنوات والأحداث ومليئة بما نحتاج لأن نعرفه، صدر الكتاب في أجزاء منفصلة استمتعت بقراءتها في ليلة واحدة وعلق بذاكرتي وبأفكاري الكثير من كلام الكبار وحكاياتهم. لم يعش نجيب محفوظ ليومنا هذا لكنه قال عام 83: إن القاهرة تعاني عسر هضم، وأنها تضخمت تضخماً خيالياً، وأنها (وهي حقيقة مرة نلمسها بأنفسنا بعد حوار محفوظ بثلاثين عاماً) «متروكة لقدرها بدون تنظيم بدون خطة»، محفوظ كان متسامحاً مع الأغاني التي قيل وقتها إنها هابطة وكشف عن حبه لعدوية، وأضاف قائلاً «تمت صياغة فوضي العصر في قالب غنائي جميل، فمثلاً من يغني ويقول (نار يا حبيبي نار..فول بالزيت الحار )، فقد تظن أن هذا كلام فارغ، ولكن عندما تسير في الشوارع وتجد المجاري طافحة ..ألا يصبح له معني؟» ، وأطرف ما قاله محفوظ كان عن الطريقة التي حوربت بها المخدرات في الثلاثينيات وقال «كانوا ينظمون رحلات المدارس إلي المتحف الصحي الذي أنشأه فؤاد الأول، ليري التلاميذ هياكل المدمنين وأشكالهم الرهيبة، وكانوا يشرحون لهم الأسباب التي أوصلتهم إلي هذا الشكل، وكانت النتيجة أن الكوكايين لم يعش في مصر طويلاً والفترة التي عاشها لم تكن في صحبة المتعلمين أبداً بل كانت في صحبة فقراء الشعب». أما المتمرد يوسف إدريس فقد لخص مشكلة المصريين في أن المطلوب قبل مشاكل المجاري والكهرباء والتصنيع، أن نحل مشكلة الحلم المصري، فهو يري أن أحلامنا ساذجة وللفن دور في الموضوع إذ قال «سوف أذكرك بالموضة التي خرجت علينا في المسلسلات والأفلام، كأن يجد عادل إمام حقيبة ممتلئة بالمال، وعندما تبحث في هذه النقطة تجد أن حلم المصري العادي هو أن يجد تلك الحقيبة، الفن يلعب علي هذا الحلم ويجسده له ، ينجح البطل لكنه قد يموت وهذه في رأيي نهايات أخلاقية مفتعلة لكي يمر العمل لكن الحلم يبقي كما هو». قال الدكتور مصطفي محمود: إن ما يجب أن نفهمه جيداً أن الإسلام يعتمد علي أن الضمير هو الحارس، وأنه يجب أن تضع في بالك دائماً أن الدنيا معبر ومزرعة للآخرة، الدنيا مجرد كوبري ومن السذاجة أن تبني فوق الكوبري عمارة. أما الكاتب مصطفي أمين فقد كان أول من تنبأ بظاهرة التحرش عام 83 إذ قال «أهم تغيير طرأ علي الشخصية المصرية هو ضعف الانتماء، كان المجتمع كله فيما قبل يري خدش حياء أنثي إهانة له، الآن قد أمر بسيدة تتعرض لإهانة ما فلا أتوقف ولا يتوقف غيري وإذا سألتني سأقول لك بصراحة (وأنا مالي)»، لكنه أيضاً كان مبشراً إذ قال «إن هذا الشعب إذا آمن بشيء فإنه يصنع المعجزات»، لكنه تفاؤل سرعان ما بدده تصريح الشيخ محمد الغزالي «لقد تأخرنا بجدارة». أما الأستاذ أحمد بهاء الدين ورداً علي سؤال مر ببالي منذ أيام (هل سنصل إلي اليوم الذي يعتصم فيه ضباط الشرطة ؟) وجدت الأستاذ بهاء يحكي لي عن إضراب ضباط البوليس قبل 52 وكان إضراباً شهيراً وقتها حيث اعتصموا في أثنائه داخل حديقة الأزبكية لأن السخط كان عاماً وقتها حيث انعدمت العدالة الاجتماعية وكان البلد يباع ويشتري وتحكم فيه أقلية (ألا يذكرك هذا الكلام بشيء؟) ، وقال الأستاذ بهاء: إن كل الفئات عبرت عن غضبها ولم يبق إلا الجيش الذي حسم المسألة ليلة 23يوليو، ويقول الأستاذ بهاء إن الثورة حررت طاقات شعبية ضخمة جداً كانت مكبوتة ويري أن الثورة بتحريرها لهذه الطاقات قد أنقذت مصر من الحرب الأهلية، أما حالة التفسخ العربي فقد قال عنها بهاء (ولاحظ أن هذا الحوار بتاريخ مارس 83) «الموقف العربي في الحضيض لسببين، الأول: أننا لا نتفق علي أولويات القضية العربية، والثاني : أننا لا نمتلك إستراتيجية بعيدة النظر، ونتعامل مع القضايا ومستجداتها يوماً بيوم وبالتالي أصبح دورنا هو دور رد الفعل، ليس هذا وحسب لكنه دور رد الفعل المتأخر». يحيي حقي أسعدني بتصريحه «الصعيد هو العمود الفقري لمصر» ، وأضحكني عندما سُئل عن الأغنيات الحديثة فقال «الأهم من اختراع الراديو هو اختراع مفتاح لغلق الراديو»، أما الساخر الأعظم محمود السعدني فقد قال عندما سُئل عن الفرق بين عبد الناصر والسادات: إن الفرق يمكن معرفته بالفارق بين تجربة السجن التي تعرض لها في حياة كل واحد منهما، وقال «لقد ضُربت أيام عبد الناصر، ولم أُضرب أيام السادات، وخرجت من السجن في عهد الأول بملابس مقطوعة وفي عهد الثاني خرجت ببدلة وكرافتة أحضروها لي من البيت، لكن الأهم أن الأول أعادني إلي العمل فور إطلاق سراحي وخرجت من المباحث إلي روز اليوسف مباشرة، أما الثاني فقد منعني من العودة في عهده إلي الجرائد المصرية مرة أخري فاضطررت للهجرة».