من الواضح أن روسيا ستظل الورقة الأكثر ربحا وفاعلية في الداخل الأمريكي مهما قيل عن انتهاء الحرب الباردة من كل الأطراف الكبري، وعلى رأسها الولاياتالمتحدةوروسيا. فلا شئ يذهب مع الريح، ولا شئ يتبدد أبدا، ولا شئ يخلق من العدم، لأن كل ذلك ضد العلم والمنطق والقوانين البشرية. لا شك أن إدارة باراك أوباما تتعرض لانتقادات تكاد تودي بها إلى مزبلة التاريخ على غرار إدارة نيكسون إبان فضيحة "ووترجيت".
وبالتالي، لا الثورات العربية، ولا بوادر سقوط حكومة أردوغان الإسلامية في تركيا، ولا السيناريوهات الأمريكية لشمال أفريقيا والشرق الأوسط، أصبحت ذي جدوى أمام الفضائح المتوالية لإدارة أوباما. إذ يبدو أن الورقة الروسية هي الأنجح والأنجع والأكثر تأثيرا.
في 9 أغسطس 2013، صرح الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأنه يتعين على واشنطن إعادة تقييم علاقتها مع موسكو على خلفية ما اعتبره زيادة الخطاب المناهض لأمريكا في روسيا. وقال أوباما: "بصراحة، لم تتحرك روسيا في نطاق واسع من القضايا التي كنا نعتقد بأن بمقدورنا تحقيق تقدم فيها". وأضاف أن علاقته بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين طبيعة، وأنهما يتناقشان بشكل صريح وبناء حول القضايا ذات الاهتمام المشترك. إلا أنه أقر بأن العلاقات الأمريكية الروسية تباطأت منذ عودة بوتين إلى الرئاسة في عام 2012، معتبرا أن موسكو تسترجع عقلية الحرب الباردة. والمعروف، والمعلن أيضا أن البيت الأبيض كان قد ألغى زيارة أوباما إلى موسكو على خلفية قضية إدوارد سنودن الموظف السابق في الاستخبارات الأمريكية الذي حصل على حق اللجوء في روسيا.
لكن المدهش والمثير في آن واحد أن البيت الأبيض نفي قبلها بيوم واحد فقط أن تكون العلاقات الروسية-الأمريكية ازدادت تعقيدا بعد تولي فلاديمير بوتين الحكم. وقال الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض جاي كارني: "إننا نتعاون مع الدول ونحقق تقدما أو نواجه عقبات بسبب السياسة وليس بسبب أشخاص معينين".
هناك تناقضات في الخطاب الأمريكي تعكسه التصريحات الرسمية وغير الرسمية. البعض يفسره بتوزيع الأدوار، والبعض الآخر يراه جزء من تركيبة المؤسسة الأمريكية كدولة ديمقراطية تتضمن أجنحة ومواقف وانطلاقات مختلفة. هذه التناقضات ظهرت بقوة أثناء الزيارات المتتالية والمتزامنة لعدد من المسؤولين والنواب الأمريكيين لمصر. وتتوالى يوميا بشأن تزويد المعارضة السورية المسلحة بالأسلحة. وظهرت تناقضاتها أيضا بشأن الأزمة التركية وانتفاضة الشعب التركي ضد حزب العدالة والتنمية الإسلامي بقيادة حليف واشنطن وحلف الناتو رجب طيب أردوغان، وسرعان ما تلاشت هذه الانتقادات أو تم تخفيفها لاعتبارات معروفة جيدا. وعلى الرغم من كل تلك الأحداث والأزمات في مناطق واسعة تعتبرها العقيدة العسكرية والسياسية والاقتصادية الأمريكية مناطق نفوذ لها، إلا أن موضوع موظف الاستخبارات الأمريكية إدوارد سنودن طغى على كل ذلك وأصبح مربط الفرس لإدارة أوباما. لدرجة أن الرئيس الأمريكي ألغى لقاء قمة مع نظيره الروسي!
هناك علامات استفهام كثيرة تدور حول موضوع سنودن. وبعيدا عن الجزء الأمني الاستخباراتي، تتردد تساؤلات كثيرة من قبيل، لماذا لم تتصل واشنطنبموسكو عبر القنوات الأمنية والاستخباراتية المفتوحة بين أجهزة البلدين؟ ولماذا فضلت واشنطن أصلا أن تطرح القضية على الملأ؟! لماذا ترفض الولاياتالمتحدة إلى الآن توقيع اتفاقية تبادل تسليم المتهمين والمجرمين والسجناء مع روسيا؟ وهل تذكر الولاياتالمتحدة قضية تاجر السلاح الروسي فيكتور بوت، المسجون حاليا في الولاياتالمتحدة، وما جرى من أحداث حولها، وتم خلالها إذلال القضاء الروسي ووزارة الخارجية والكرملين والرأي العام الروسي كله؟ في الحقيقة، لقد تصرفت موسكو بشكل قانوني، تُحسَد عليه، في قضية سنودن. لا يهمنا الاستعراضات القانونية والحقوقية، والتصريحات الإعلامية للطرفين بشأن العلاقات الجيدة، وأن هذه القضية لن تفسد العلاقات بين موسكووواشنطن، وأن سنودن سيلتزم الصمت بشأن الأسرار والمعلومات التي بحوزته، وأن سنودن سيوقف كل نشاطاته خلال تواجده في روسيا بعد أن حصل رسميا على اللجوء المؤقت فيها لمدة عام واحد. كل ما يهمنا هنا، هو أن الولاياتالمتحدة التي ترفض التدخل في شؤون القضاء، وتنتقد الدول الأخرى على فعل ذلك، تطالب الجميع بخرق كل القوانين والتشريعات إذا كان الأمر يتعلق بمصلحة أو رغبة أو توجه أمريكي. وإذا رفض هذا الطرف أو ذاك تنفيذ الرغبة الأمريكية، فالويل كل الويل له ولحلفائه، بداية من الحملات الإعلامية، وانتهاء بالعقوبات الاقتصادية والعسكرية والإنسانية، وربما التحريض والتدخل المباشر وغير المباشر.
من المعروف أيضا أنه عندما تتعرض الإدارة الأمريكية لمأزق هنا أو هناك، أو تتوالى عمليات فشل ما لسيناريوهاتها، تبدأ باستخدام الورقة الروسية التي تعمل على رص صفوف المجتمع الأمريكي المسكين فعلا في ظل إداراته المتعاقبة. بل ويصل الأمر في الكثير من الأحيان إلى أن يتحول الديمقراطيون إلي صقور أكثر تطرفا وراديكالية من الجمهوريين. وأحيانا يبدأون باستخدام تطرف واندفاع الجمهوريين في الهجوم على هذا الطرف أو ذاك. وبالنسبة لروسيا، فهناك دائما الجزرة الجاهزة، ألا وهي التلويح بضرورة التفاهم في قضية الدرع الصاروخية واتفاقية تقليص الأسلحة الهجومية الاستراتيجية. لقد أظهرت التجارب خلال أكثر من 20 عاما أن واشنطن تستخدم هذه الجزرة مع موسكو في وقت أزمات الأولى. ولكن يبدو أن الأزمات أصبحت كثيرة، وأن إدارة أوباما تكاد تتجرد من آخر قطعة ملابس بصرف النظر عن اللقبين اللذين حصل عليهما السيد باراك حسين أوباما: "الرئيس الحكيم" و"الحائز على جائزة نوبل للسلام"! لم يعد حتى بمقدور موسكو أن تساعد الإدارة الأمريكية إذا أراد الكرملين نفسه. وإلا ستكون روسيا بذلك قد فرطت في مصالحها القومية والوطنية التي لا يهددها فعليا وعلى الأرض الواقع إلا السياسات الأمريكية وطموحات الهيمنة التي لا تريد الإدارات الأمريكية المتعاقبة أن تفهم وتدرك أن زمنها قد ولى وإلى الأبد!
الإدارة الأمريكية في مأزق شديد التعقيد في أفغانستان والعراق وباكستان وسورية وليبيا وتونس وتركيا. والمأزق الأشد تعقيدا في مصر، حيث كل نجاح للمصريين في القضاء على حكم اليمين الديني المتطرف المدعوم مباشرة من الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، هو فشل للولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين والدوليين. كل نجاح للمصريين في مشروعاتهم الوطنية والقومية هو إزاحة تاريخية واجتماعية للتيارات الدينية الظلامية والرجعية، وبالتالي ابتعاد عن سياسات واشنطن وخطط صندوق النقد الدولي. إن مآزق الولاياتالمتحدة عادة ما تحل بتراجع ما لروسيا، أو جر موسكو على أرضية واشنطن في هذه القضية أو تلك، وسرعان ما تنسى الثانية منقذتها الأولى وتتجاهلها إلى أن تظهر أزمة أخرى جديدة. وعندما تصمم روسيا على رأيها في موقف ما أو قضية ما، تلتف الولاياتالمتحدة علي كل قوانين الشرعية الدولية وحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية لتعلن نفير الحرب عبر الأحلاف الدولية والأمم المتحدة ومجلس الأمن.