مهما بحثت حضرتك ونقبت فلن تجد في الأسواق حاليًا غير تفسيرين اثنين لتلك الظاهرة الفريدة التي تستطيع أن تختصرها في أن التمثيل الأمين والمشرف لتنوعات الأغلبية الساحقة من المصريين انتقل بالسلامة من مبني مجلس ينسب نفسه للشعب عنوة واقتدارًا إلي الرصيف المقابل لهذا المبني.. وكل عام وأنتم بخير. التفسير الأول تبناه الدكتور أحمد فتحي سرور - رئيس المجلس المذكور أعلاه - عندما اعتبر وجود الشعب وإقامته الدائمة هذه الأيام علي الأرصفة عمومًا ورصيف مجلس سيادته خصوصًا «مظهرًا إيجابيًا من مظاهر الديمقراطية التي تتمثل إحدي صورها في احترام حق الإضراب والتظاهر والتعبير»!! أما التفسير الثاني فهو يرد ظاهرة الزيادة اليومية في عدد فئات وأنواع المواطنين الغلابة الذين يهجرون بيوتهم وجحورهم البائسة ويفترشون أسفلت الشوارع ويلتحفون بالسماوات المفتوحة، إلي تفشي المآسي والكوارث والمظالم الاجتماعية وبلوغها حدودًا ومستويات فاحشة ومرعبة بعد أن انتهت أطول عملية سطو مسلح علي السلطة والثروة في بلادنا إلي إبداع حالة نادرة من حالات الاغتصاب السياسي تتبدي أقوي ملامحها في حقيقة أن حفنة من المليارديرات هي التي تحكم وتتحكم الآن في شعب نصفه (تقريبًا) أصبح يصارع الموت بالجوع والمرض والحرمان. ولا يري أصحاب هذا التفسير الأخير في ظاهرة «الشعب النائم علي الأرصفة» أي أثر للديمقراطية البتة، وإنما يرون فيها دليلا عكسيًا تمامًا يفضح غيابها ويكشف مدي انحطاط وتشوه المؤسسات المنسوبة لها بالزور والبهتان، إذ لو كانت الديمقراطية موجودة حقًا ما كان ممكنًا أصلاً أن تتمدد الجريمة وتستفحل الكارثة علي هذا النحو المريع، وما كان لقطعان النشالين والنهابين أن يستولوا علي آلة الحكم والتشريع في هذا الوطن.. فليس من معاني الديمقراطية ولا من علاماتها التي تعارف عليها البشر، أن يفوز الشعب الضحية (أحيانًا) بفرصة للصراخ والأنين علي رصيف محاصر بالأمن المركزي، وإنما عصب وجوهر أي نظام ديمقراطي في الدنيا أن يتمكن الناس من ممارسة حقهم في اختيار حكامهم ومن يمثلونهم ويحمون حقوقهم ويدافعون عن مصالحهم في برلمان أصلي يستحق اسمه. هذان هما التفسيران المتاحان لظاهرة هجرة المصريين الجماعية إلي الأرصفة، وعن نفسي فقد اخترت تفسير الدكتور أحمد فتحي واعتمدته وآمنت به للسببين الآتيين: أولا: إن الظهور العلني للشعب وتوفير كميات معقولة ومتزايدة من فئاته وأصنافه المختلفة علي الأرصفة بما يمكن أي عابر سبيل من التفرس فيها وتأملها ومعاينتها بل تقليبها ذات اليمين وذات اليسار، من شأنه أن يخرس الألسنة التي تتحدث عن غياب الشعب المصري واختفائه التام من المنطقة، كما يقطع الشك باليقين أنه لم يمت ولم تُستأصل شأفته من الدنيا بعد. ثانيًا: وبمناسبة «بعد» الأخيرة هذه، فإن وجود عينات من المصريين علي أرصفة ملاصقة أو قريبة من مباني مجلسي الشعب والشوري ومجلس الوزراء والمجالس الطبية المتخصصة.. إلخ، إن لم يُذّكر أعضاءها والباشوات والبهوات المتحصنين فيها بجريمتهم، فقد يشحذ هممهم ويذكرهم بأن مهمتهم الإجرامية لم تكتمل «بعد».. ولا حول ولا قوة إلا بالله.