إنتفاضة ميدان تقسيم بتركيا ضد نظام أردوغان بثت الأمل في نفوس أصابتها علل كثيرة خلال أكثر من عامين بعد تضحية كثيرين بحياتهم أو حريتهم أو صحتهم أو أوقاتهم من أجل حلماً، أراد من فقدوا القدرة على تصور حياة أفضل أن يصوروه و كأنه سراب... و عليه فلنتقبل القبح الذي يحيط بنا من كل جانب، من تردي للحالة المعيشية، إلى إنعدام الخدمات و إنهيار المؤسسات و المرافق، لأننا لسنا جديرين إلا بإحدى الفاشيتين: العسكرية أو الدينية. يتوهم أرباب اليمين الديني أنها دائمة لهم، و أنهم يرسون دعائم الخلافة بحق و في سبيل ذلك فكل شيء يهون: من الممكن التنازل عن السيادة أو الوطن وحتى المواطنين و الرضوخ لسياسات مُملاة كانوا قد رفضوها سابقاً، و الإجهاز على كل من تسول له نفسه أن يحلم بدولة حديثة مستقلة يكون للمصريين فيها السيادة الكاملة على أرضهم و مقدراتهم لأول مرة في التاريخ.
و على الجانب الآخر هناك من يستكثر ذلك كله على الشعب المصري؛ لا يريدون حكم الإسلام السياسي ليس فقط لأنه لا يروق لهم بل لتعارضه مع مفهومهم للحرية و لكنهم لا يعبأون بمفهوم العدالة الاجتماعية، بل يرون القمع هو السبيل الوحيد من أجل تسيير الأمور متناسين و متجاهلين أن ما نعيشه اليوم ما هو إلا نتيجة تراكمية لسنوات من القمع و من تحجيم للعقول.
ظاهرة فقدان القدرة على الحلم ليست محلية بل عالمية، فهناك مليارات من البشر ارتضت لنفسها دور التروس داخل نظام عالمي يحقر من رغبات الأفراد و يحددها داخل إطار الاحتياجات اليومية و هناك من يقاوم. فعندما أعلن چورچ بوش الأب عن تدشين النظام العالمي الجديد بعد سقوط حائط برلين بدأ تطور مجتمعي مناهض للعولمة، ثم بدأت الملايين تتحرك في إتجاه معاكس لهذا النظام بعد أن قرر صقور المحافظين أن يفرضوا الهيمنة الأمريكية على القرن الواحد و العشرين، فقابل قرار غزو العراق نزول الملايين إلى الشوارع و الميادين في نفس التوقيت يوم 20 مارس 2003 و في بلدان مختلفة و تتابعت التحركات وصولاً إلى الثورات العربية.
لو كان الفرنسيون كلهم استكانوا إلى الاحتلال الألماني خلال الحرب العالمية الثانية و لم تظهر المقاومة لكانوا بقيوا دولة مستضعفة حتى بعد انتصار الحلفاء و لما كانت الجمهورية الخامسة صاحبة المقعد الدائم في مجلس الأمن.
لم تكن أحداث تقسيم هي الباعث الوحيد للأمل، فهناك إعتصام وزارة الثقافة الذي أعاد الروح الأولى للثورة و انتشار حملة تمرد و جمعها لعدد توقيعات لسحب الثقة من الرئيس لم يسبق لها مثيلاً في مصر.
من فقدوا القدرة على الحلم يفتقدون بالطبع أي خيال و يتقبلون بالتالي الوضع الحالي أو يتندمون على ما كان لأنهم يفتقرون للقدرة على التفكير خارج الصندوق أو على إبداع تصورات مختلفة للمستقبل، فيستكينون إلى منطق أعور يستند إلى شرعية صندوق و انتخابات- هي بالفعل باطلة ولدت سفاحاً نتيجة عملية سياسية باطلة و نمت على حساب دماء طاهرة. فيقولون: و ماذا بعد؟ و هل هناك قيادة قادرة على تحمل المسؤولية إن هم رحلوا؟ قل: و هل ظهرت أي قيادة بعد أي ثورة مباشرة إلا إن كان إنقلاباً عسكرياً ممهداً له مسبقاً؟! هذه ثورة كالقطار السريع و قد تركه الكثيرون في محطات و بقى فيه من بقى أحياء و شهداء، و قد قربت المحطة الأخيرة أو ربما قبل الأخيرة..