ما الذى يفعله الإخوان بالثورة التى يزعمون أنهم يحكمون باسمها، والتى لولاها لكان كثير منهم فى السجون؟ هل يتصورون أن باستطاعتهم إعادة تأسيس حاجز الخوف الذى كسرته الثورة؟ وهل يمثل من يطارد الثوار ويقتلهم الثورة أم الثورة المضادة؟ هذه هى الأسئلة التى شغلت الرأى العام بعد استهداف حكومة الإخوان الثوار فى مصر واغتيال حكومة النهضة رموز المعارضة فى تونس. بعد أن أخفقوا إخفاقا ذريعا فى تحقيق أى هدف من أهداف الثورة خلال الأشهر التى كانت لهم فيها الأغلبية المطلقة فى البرلمان قبل حله، ثم الآن بعد سبعة أشهر من حكم محمد مرسى أو مكتب الإرشاد المتخفى وراءه. وبعد أن انحدروا، بتعليمات واضحة من محمد مرسى للتعامل بشدة وحزم مع المتظاهرين، إلى سحل مواطن بسيط عاريا فى عز البرد. فقد نادت الثورة بأهداف واضحة: عيش، حرية، كرامة إنسانية. العيش الكريم الحر الذى يكفل تعليما سليما، ورعاية صحية ملائمة، وحق العمل، وأهم من هذا كله التوزيع العادل لثروات الوطن التى طالما تعرضت للنهب فى مجتمع الهوان والتبعية والفساد. هذه الأهداف الكبيرة الثلاثة التى لم يتحقق أى منها بعد عامين من الثورة، هى سر هذا الإحباط المتفشى فى المجتمع المصرى كله، وهى مصدر السخط على من يحكمون باسم الثورة، ويعملون على وأد حلمها فى انتشال مصر من التخلف والهوان. سواء أكان حكم المجلس العسكرى الذى استقبله الثوار بالترحاب وشعار «الجيش والشعب إيد واحدة» ثم انتهى ب«يسقط حكم العسكر» و«عسكر كاذبون». أو حكم الإخوان الذى أقسم محمد مرسى فيه على تنفيذ أهداف الثورة، فاتحا صدره فى ميدان التحرير، وانتهى بعد أشهر قليلة هاربا من الباب الخلفى للاتحادية، وإلى نفس ما انتهى إليه حكم المجلس العسكرى من «إخوان كاذبون» و«يسقط حكم المرشد». لكن إنجاز الثورة المهم، الذى انتزعه الثوار بفضل عظمة ثورتهم النبيلة، هو كسر حاجز الخوف، وما انطوى عليه هذا الكسر من مفاهيم وطنية مهمة. فكسر حاجز الخوف يعنى عودة الشعب إلى الاهتمام بأمور بلده، بعدما استشرت اللا مبالاة و«وإحنا مالنا» و«يا عم هى بلدنا!». وانتهاء غربته عن بلده وعودته إلى الفاعلية فيها. ويعنى ممارسة الشعب لدوره المهم فى الرقابة على السلطة التى تستمد شرعيتها منه، لأن الشعب مصدر كل سلطة سياسية. ويعنى بداية الإجهاز على الفساد، ووضع معايير خدمة الوطن وتحقيق أهدافه مرة أخرى على خارطة العمل السياسى وفى بؤرة الاهتمام الوطنى. فبفضل انكسار حاجز الخوف استطاعت الثورة أن تحاكم مبارك، وأن تنهى حكم المجلس العسكرى، وأن تنتخب للأسف الشديد محمد مرسى الذى اعتبرته أهون الشرين، حينما لم يكن أمامها غير خيار الفلول والإستبن. فقد كان استشراء الخوف فى مصر، وهو أمر يعود إلى مرحلة حكم جمال عبد الناصر، ينطوى على مجموعة من المفاهيم: أولها أن لمن يحكم فى السلطة شرعية يقبلها الجميع، أو على الأقل الأغلبية الكبيرة منهم، بالصورة التى تفرض هيمنتها على العقول، وتجعل من يعارضها يخاف من العقاب. وقد كانت ديكتاتورية عبد الناصر ومعاداته للحريات هما أسوأ ما فى عهده. لكن مشروعه الكبير فى إنهاء الاستعمار، والحفاظ على الاستقلال الوطنى والعض عليه بالنواجذ، والنهضة بمصر صناعيا وزراعيا، وبناء اقتصادها المتين (لا تنسَ أن كل ما باعه نظام مبارك فى عملية النهب المسماة بالخصخصة، وما يسعى الإخوان لبيعه الآن بناه عبد الناصر)، وترسيخ مكانتها على الصعيد المحلى والدولى، هذا كله أكسبه شرعية شعبية ودولية كبيرة، فرضت هيمنة نظامه على العقول، وكانت هى، قبل أجهزة القمع، من يدفع معارضيه للخوف. لكن تقديرنا الكبير لمشروع عبد الناصر الوطنى العظيم لا ينفى أبدا أنه، وكى ينجز مشروعه الكبير بأقل الخسائر، أسس بنية دولة الخوف التى تقوم على القهر البوليسى، وعلى تجميع كل خيوط السلطة فى يد الرئيس. وقد بقيت تلك البنية، التى كانت تركز سلطات الدولة كلها فى مؤسسة الرئاسة، على حالها فى عهد خلفيه: السادات ومبارك. على الرغم من انتهاء شرعية الأول الشعبية القصيرة التى تأسست بإنجازات الأيام الأولى فى حرب أكتوبر، فى انتفاضة 18 و19 يناير عام 1977. فتوجه بعدها للعدو الصهيونى يستمد مما قدمه له من فتات السلام شرعية منقوصة، لم تنطلِ على الشعب المصرى. وما زلنا نعانى من عقابيل معاهدتها المشؤومة فى كامب ديفيد حتى اليوم. أما مبارك الذى لم ينجح طوال سنوات حكمه الطويلة فى تأسيس أى شرعية شعبية فقد حكم بقوة عجلة القصور الذاتى لتلك المؤسسة الجهنمية المسماة بمؤسسة الرئاسة، والتى اجتمعت فيها منذ أيام عبد الناصر كل خيوط الحكم والسيطرة على البلاد. واستمد شرعيته لا من الشعب المصرى، إنما من ثلاثة مصادر أساسية: أولها الحفاظ على المصدر الذى اكتسب منه السادات الشرعية بعد انقلاب الشعب عليه عام 1977، أى من التبعية المطلقة للسياسات الصهيوأمريكية فى المنطقة. وثانيها السيطرة على جهاز الدولة الإعلامى الكبير، الذى أممه عبد الناصر، وتوسع فيه السادات، فتحول إلى أداة فاعلة لفرض وعى زائف وهيمنة تنهض على غسل مخ المصريين. وثالثها الإخراس المراوغ للنقد عن طريق احتواء المثقفين، وإدخالهم الحظيرة على أيدى فاروق حسنى وتابعه الهمام جابر عصفور. ورغم ذلك كله، فقد أخذت شرعيته الشكلية فى التآكل، بل التحول إلى سخط شعبى مع اتساع الفجوة بين الأثرياء والفقراء، والتدهور الاقتصادى، والفساد، ونهب خيرات الوطن وبيع أصوله. ثم جاءت القشة التى قصمت ظهر البعير مع مخطط التوريث البائس. لذلك تواقتت بدايات التمرد عليه وكسر حاجز الخوف القديم مع عملية التوريث تلك وانطلاق وقفات «كفاية» الاحتجاجية وكسرها الرمزى لحاجز الخوف. وهو أمر سرعان ما تحول إلى كسر فعلى له مع «6 أبريل» والاحتجاجات المهنية، ثم جاءت الثورة تتويجا لهذا كله. لاحظ أن الإخوان، وحلفاءهم من السلفيين، لم يكن لهم أى دور يذكر فى كسر حاجز الخوف ذاك، فقد درجوا على عقد الاتفاقات السرية والمكيافيلية مع نظام القمع وأجهزته، وهو نظام كانت له دوما اليد العليا فدفعوا ثمن صفقاتهم معه، وهو الأمر الذى يتاجرون به الآن. إذن فإنجاز الثورة الوحيد الذى تحقق بكسر حاجز الخوف له تاريخ طويل من النضال. كما أن انكساره وثيق الصلة بفقدان النظام الذى يمارسه للشرعية. فهناك كثير من المفاهيم المضمرة التى تتيح لهذا الحاجز أن ينتصب فى وجه الشعب ويمارس قهره عليه. أولها أن للنظام الذى يمارسه شرعية سياسية وشعبية ناتجة عن إنجازاته الملموسة. وثانيها أن ثمة مبررات مقنعة له، يقبلها العقل لممارسة العنف ضد أعدائه (عادة ما تكون حماية تلك المنجزات أو التفرغ لمعركة وطنية كبرى). وثالثها أن أعداء النظام هم أعداء لمشروع يستهدف صالح الشعب ومستقبل الوطن. ورابعها أن ثمة مبررات مقنعة أيضا، كما كان الحال فى المعركة مع العدو الصهيونى و«لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» لتأجيل أى معارضة. وقد سقطت كل تلك المفاهيم مع عجز نظام مبارك عن بلورة أى مشروع وطنى، وسقوطه فى مباءة التبعية لأمريكا، وتحوله إلى الذخر الاستراتيجى للعدو الصهيونى. لكن ما نراه الآن على الساحة المصرية، ومنذ ركوب الإخوان على الثورة، ووضع رجلهم فى مؤسسة الرئاسة، هو محاولة بائسة لتأسيس حاجز الخوف من جديد. دون توفر أى من العوامل التى تتيح تأسيسه. فحتى الرئيس نفسه سرعان ما فقد الاحترام الذى أضفاه عليه الشعب فور انتخابه، بسبب إدمانه الكذب والتراجع عن وعوده السياسية والاقتصادية منها على السواء. ولذلك يردد الإخوان كثيرا الشكوى من عدم توقير الرئيس، ويصرخ ابنه على «الفيسبوك» اسمه سيادة الرئيس يا بغل! دون جدوى. وكأن التوقير أمر لا بد أن يحظى به الرئيس لمجرد أنه رئيس، وليس لأن أفعاله تدفع الشعب إلى احترامه أو العكس. ولا تعنى الشكوى وصراخ الابن معا إلا أن الرئيس والإخوان معه قد عجزوا عن صياغة خطاب سياسى مقنع، يمكنهم من تحقيق الهيمنة، ويدفع الشعب إلى احترام الرئيس وهيبته. وهذا ما دفعهم إلى تلك المحاولات البائسة والمتخبطة والمؤسفة معا لتأسيس حاجز خوف لا ينهض على أى أساس من العقلانية، أو الشرعية السياسية، أو المشروع الوطنى، إنما على القهر والاستبداد، وهما مفهومان أسقطتهما الثورة. فقد تحول حكم محمد مرسى فى أشهر قلائل إلى الذخر الاستراتيجى للعدو الصهيونى من ناحية، وللسياسات الأمريكية فى المنطقة من ناحية أخرى. ولا يوجد عاقل يقتنع بأنه قد قدم لمصر أى إنجاز، اللهم إلا السعى لتمكين الإخوان وتوزيع مناصب الدولة من وزارات ومحافظات عليهم. وتوفير فرص مشبوهة تتيح لهم استرداد الستمئة مليون التى ينسب البعض إلى قيادى إخوانى بارز قوله إنهم أنفقوها على انتخاب مرسى رئيسا. ولا يمكن لمن يتعامل مع البلد كنهيبة أن يؤسس خطابا يحترمه الشعب، ناهيك عن أن يدير سلطة تحقق أيا من مصالحه أو أهداف ثورته. لذلك فإن سعى الإخوان لتأسيس حاجز الخوف من جديد ينهض على العنف والبلطجة التى بدأت بتكسير المنصات فى جمعة كشف الحساب، وتواصلت فى اعتداء ميليشياتهم على المتظاهرين ضد الإعلان الدستورى الفاسد فى الاتحادية، وحصار المحكمة الدستورية، ثم حصار مدينة الإنتاج الإعلامى لترهيب القنوات المعارضة، مع أن للإخوان ولحلفائهم من المتأسلفين قنوات أكثر منها دينية وسياسية (الفتح، الناس، الحافظ، مصر 25، الرحمة، أزهرى، المنارة.. إلخ) والتى لا ينطلى زيفها وتخلفها على الشعب، وصولا لمشهد سحل حمادة صابر واصطياد الثوار والناشطين بالرصاص الحى أو بالتعذيب المفضى إلى موت (جابر جيكا ومحمد الجندى ومحمد كريستى وعمرو سعيد وغيرهم) فى معتقلات الأمن المركزى بعد أخونة الداخلية. والواقع أن إعادة إنتاج النظام الفاسد الذى ثار عليه الشعب المصرى لن تنجح فى إعادة عقارب ساعة الزمن إلى الوراء. وما الصفعات القاسية التى وجهها شعب مدن القناة لمحاولة إعادة إنتاج نظام الطوارئ الذى حكم به مبارك لسنوات، إلا دليل ساطع على تلك الاستحالة، وعلى عجز نظام أخفق فى إنتاج شرعيته عن إرهاب الشعب أو تخويفه، رغم التلويح بالإصبع وبالإجراءات الأشد. وإخفاقه الذريع فى تأسيس خطاب يكفل للرئيس احتراما لا تفرضه الشكوى أو صراخ ابنه. ومن المفارقات المؤسفة أن يطلب رئيس كان معتقلا حينما اندلعت الثورة، وحررته الثورة من محبسه، من وزير الداخلية أن يضرب الثوار بشدة وحزم! وأن يسحلهم عراة فى عز برد «طوبة». لكن ساعة الزمن لن تعود إلى الوراء، وستستمر الثورة حتى تحقق أهدافها النبيلة فى الكرامة، والحرية، والعدالة الاجتماعية.