هذا العنوان تحديدا أكبر من المقال، وربما يكون أكثر بلاغة ودقة منه. ولكن أن يتحول الكاتب العالمي المزعوم في القرن الواحد والعشرين إلى واعظ من وعاظ الجاهلية الأولى والثانية والثالثة، فهذا ما يدعونا إلى وضع بعض الملاحظات حتى لا تبهرنا الروايات السميكة المتواضعة والعبارات ذات الجِلْد الأسمك، وطريقة التفكير التي تعكس انحطاطا ذهنيا ونفسيا وروحيا.. لا شك أن مراحل الانحطاط الحضاري تفرز ضمن ما تفرز نماذج وموديلات يقوم القوادون الثقافيون بالترويج لها. وتظهر القوادة الفكرية والإبداعية والنقدية كضرورة من ضرورات صناعة الكُتَّاب العالميين العرب. وبالتالي، يمكن للكاتب العالمي أن يغلي "تِفل" الشاي ويقدمه للعامة والدهماء، بل ويمكن أن يبيعه مرة أخرى، بالضبط مثلما يبيع الليمون بعد عصره أو الماء في حارة السقايين!
هكذا جاءت الرسالةٌ المسائية للكاتب العالمي المزعوم:
(إلى رئيس الجمهورية . حالُك الآن لا يمكن أن يخرج عن أحد هذين الأمرين ، فلا ثالث لهما : أن تكون مُدركاً لما يجرى فى أنحاء مصر من غضبٍ عامٍّ قد تزايد حتى صار احتقاناً يُنذر بالانفجار ، أو تكون غائباً بمن حولك عما يحيط بك و سيلحق بك ، لا محالة . فإن كان الأمرُ الأولُ ، فما قعودُك عن المبادرة إلى انقاذ البلاد من هوّة لا يعلم قرارها إلا الله ، أولم ترَ كيف كانت عاقبة السابقين الذين ضلّلتهم التقارير ، حتى لحق بهم سوءُ المسير و المصير ؟ و إن كان الأمر الآخر ، و ليته لا يكون ، فلا داعى للكلام أصلاً و لا معنى لحوارٍ يرمى إلى التحوير.
و اعلم يا رئيسَ الجمهورية أن معارضيك أرحم بك من مؤيديك ، لأنهم ينبّهونك ، و الآخرون يخدّرونك . و شتّان ما بين المنتبه و المُخدَّر . و اعلم أنه لا يصحُّ منك الاحتجاج بأن القياد ليس كله بيدك ، فالقيادُ يُمسك أو يُترك ، و لا عوانَ بين هذين . و لا تحتجَّ بأن أعداءك يحتالون بكل الحيل و يكثِّرون المشكلات التى "ورثتها" أصلاً ، كثيرة ! فأنت لم ترث شيئاً ، و ما الرئاسةُ بالوراثة ، و قد سعيتَ لمنصبٍ كان أمره من قبل مفضوحاً . فلا تظنَّ أنَّ الأمرَ خافٍ على أحدٍ ، مهما هان قدره أو قل عمره ، فقد شبَّ الكلُّ عن الطوق و لن تعود عقارب الساعة أبداً للوراء..
يا رئيسَ الجمهورية تحرّك الآن بنيّةٍ صادقة ، لأن وقتُك ضيقٌ ، و كذلك وقتنا . و احترم الناس ، و بدّد الالتباس ، فإن أيامك باتت معدودةً ، و أيامنا ، و معدودةٌ عليك الأنفاس).
هذه هي الرسالة المسائية. إذ توخينا نقلها كما خطتها يد الكاتب العالمي الذي تحول إلى داعية أو واعظ للطاغية ملفقا رسالة لا تعلو شأنا عن بعضٍ من بصاق أو مخاط.. فأي "التباس" و "أي نية صادقة" يا شيخ الوعاظ؟ من لا يرى من الغربال، هو أعمى بصر وبصيرة! هل تدرك ما خطته يدك؟ الالتباس شئ، وما يجري في أرض مصر وعليها شيء آخر تماما؟ هذا الكلام يمكن أن تقوله في رواياتك المنسوخة من كتاب ومترجمي العصر العباسي على غرار ما خطته يد أمبرتو إيكو وأمثاله!! مثل هذا "التِفل" يمكن أن يصلح مقدمة لإحدى رواياتك السميكة بجلدها السميك، لا أكثر!
يا شيخ وعاظ الإخوان، أنت أقل من إظفر ابن المقفع. هل أعماك غرورك، أم أن تضخم ذاتك غرك بما لا طاقة لك به فانبريت لما لم يفعله حتى الكبار، لا لضعف أو تهاون، وإنما لذكاء وامتلاك لناصية العبارة والفعل، ولنا في رموز التنوير في القرن العشرين أسوة حسنة؟! هل أغراك شيطانك الأكثر ادعاء وضحالة منك بتقليد ابن المقفع في رسالة "الصحابة" إلى أبي جعفر المنصور؟ إذن، عد إلى رسالة ابن المقفع لتتعلم مجددا ما هي الكتابة ولماذا؟ إن رسالة ابن المقفع كانت في زمنها وظروفها سيفا مسلولا مسموما يقطع ولا يُقطع ضد حاكم أخرق غرق في الدماء وأغرق بها البلاد. فما هي رسالتك أنت في القرن الواحد والعشرين، ولمن؟! رسالتك، يا شيخ وعاظ الكفار الجدد، لا تليق من فرط هزالتها وهزليتها ووضاعتها إلا بمؤخرة طائر النهضة والبيض الفاسد الذي يرقد عليه الطائر ومن طار معه! ابن المقفع عُذِّب وقُطِّعَت أوصاله وشُوِيَت أمام عينيه... فقتلوه فصلبوه.... فماذا عنك يا شيخ وعاظ الإخوان العالمي؟!
من الواضح أن رسالتك لرئيسك، وربما ولي نعمتك من وراء الأبواب هي قمة إبداعك المزعوم! لو كان أبو حيان التوحيدي أو السهروردي أو الراوندي أو ابن المقفع قرأوا رسالتك الوضيعة، لصلبوك عقلا وروحا.. والحديث يجري عن بنية عقل هؤلاء الكبار لا عن منجزهم أو أسباب قتلهم وصلبهم، يا شيخ وعاظ الطغيان والتخلف والظلامية. لا عليك، فالأواني المختبئة خلف أبواب التاريخ الصدئ لا يمكن أن تنضح إلا بما فيها. رسالتك المسائية القذرة، تؤكد ليس فقط سوءاتك الفنية والإبداعية، بل تكشف أيضا عن سوءاتك الإنسانية والذهنية والنفسية.
تعالى أهديك لما يمكن أن يكابر عليه عميان البصر والبصيرة:
- قالوا: ألا تكلم الناس دهرا. فالصمت صفة العصافير العاصية، وصبر عاصم من عصف العواصف العاصفة، وسيف مسلول مسموم مسحور إن قطعته قطعك، وإن وصلته قطع غيرك.. فالويل لك.. الويل لك.
وخذ هذه أيضا لعلك تفيق من الوهم والطموحات الحرام:
"ولما يشتد أوار المعركة المجاورة، أرى معاوية يفر، والآخر يكشف عن عورته الخلفية بمحض إرادته، ويزيد يسكر حتى مطلع الفجر، فأتقلد سيفى وأضرب الحجاج والمنصور والحاكم بأمر الشيطان حتى آخر خليفة عصرى. وعندما أُلقى برأس آخرهم فى النهر، تلتئم أشلاء ابن المقفع، ويستيقظ الجعد والحسين، وينزل الحلاج والمسيح والسهروردى من فوق صلبانهم، ويعود أبو ذر من منفاه، ويضحك أبو حيان ساخرا من الوزراء الأدباء والأدباء المستوزرين ومَنْ على شاكلتهم".
وإليك أيضا ما قاله أجدادنا منذ آلاف السنين، منذ ما قبل ظهور أمثالك في الجاهليات المتعاقبة:
.."ها أنتَ على شاطئ لا أعشاب له، وعلى ضفة نهر لا ينمو فيه العوسج. ستطير سهامك وسط النهر، كما تطير أوزة وحشية إلى وليدها. أطلق- أتوسل إليك- وسط النيل، واغرس حربتك فيه. ثبت رجليك ضد هذا الفرس النهرى، واقبض عليه بيدك، وإن كنتَ قد أصبحتَ عارفا فلسوف تقضى على هذا الأذى، وتسئ معاملة الذى أساء إليك".
فأي دعوة للجهل والظلامية والتخلف لإنقاذ البلاد؟ وأي التباس وأي نية صادقة، يا شيخ الواعظين العالميين؟