لولا الملامة لأعلنت من زمان تأييدي المتحمس للاقتراح العبقري الداعي إلي إنشاء «منطقة تظاهر» حرة قاحلة وبعيدة عن العمران تخصص للمهاتية ووجع القلب ويذهب أليها المواطنون الغلابة بشكاواهم ومظالمهم ومطالبهم دون أن يزعجوا الست الحكومة والأستاذ النظام الذي يسرحها ويطلقها علي خلق الله في هذا البلد، ولئلا تتأذي عيون السادة المسئولين الكحيلة بمنظر فئات وطبقات الشعب البائس بينما هم يلتحفون بالسماء ويفترشون أسفلت وأرصفة الشوارع. وأعود لسبب حماسي وتأييدي لهذا الاقتراح، وهو في الواقع ليس سببا واحدا ولا عشرة ولا حتي ألف، بل ربما مليون سبب علي الأقل أولها وأخطرها أن من شأن تطبيقه إحداث انقلاب ثوري عميق وفظيع جدا في فلسفة فاعليات وأنشطة الاحتجاج التي تعارف عليها البشر، فالمفوهم (الخاطئ) السائد حاليا أن المحتجين والمتظلمين يذهبون عادة وفي كل بلاد الدنيا إلي حيث يوجد الحكام والمسئولين ليس طمعا في التمتع ب"اللطعة» وطيب الإقامة والنوم علي أرصفة شوارع مناطق وأحياء شيك وراقية، وإنما لإن ذلك هو السبيل الوحيد لتوصيل أصواتهم ومطالبهم وشكاواهم إلي مسامع هؤلاء الحكام والمسئولين. هنا تحديدا يتجلي المفهوم الانقلابي الثوري الجديد الذي يرقد في أحشاء فكرة تخصيص مكان ناء وموحش لا تطأه أقدام المسئولين والحكام ولا حتي الشياطين الزرق، لكي يمارس فيه الشعب هواية التظلم والاحتجاج براحته، إذ بمقتضي هذه الفكرة فإن عبء توصيل صوت الشكوي سوف ينتقل بالسلامة من علي كاهل المواطن الشاكي إلي كاهل معالي المسئول المشكو في حقه نفسه، بمعني أن المتظلم والمحتج بعد تطبيق نظام مناطق الاحتجاج المقطوعة سوف لا يعود مهموما ولا معنيا أصلا بمشكلة وصول شكواه ومظلمته إلي حيث يجب أن تصل ومن ثم سيوفر وقته ومجهوده لتجويد وتنمية مهاراته الاحتجاجية وإبداع وسائل وأدوات جديدة، ك «العض في الأرض» مثلا، فضلا عن فنون العويل والصراخ ولطم الخدود وشق الجيوب وخلافه. أما كيف ستعرف الحكومة وتسمع مطالب شعب جنابها الصارخ في البرية، فإن ثورة الاتصالات الراهنة كفيلة بحل المشكلة من جذورها وتوفير حزمة هائلة من الوسائط والوسائل الكفيلة بتوصيل معاناة الجماهير إلي مستحقيها، منها علي سبيل المثال لا الحصر إمكانية تزويد «المحميات الطبيعية للمتظاهرين» بخطوط هواتف ثابتة ومحمولة ذات أرقام ساخنة مختصرة ومعلنة بحيث يستطيع المسئول من دول أن يتصل بها في أي وقت يكون مزاج سيادته رائق وعنب فيسمع ويطرب ويستمتع بصوت أنين الناس وعويلهم، كما يمكن أيضا إنشاء محطة راديو تبث مباشرة هذا الأنين الشجي علي موجات ال «أف أم» ما يسمح للحكومة بمتابعة فقرات الشكوي والاحتجاج بينما هي تتبختر رائحة غادية بسيارتها المرسيدس السوداء المنيلة بستين نيلة. لكن يبقي من أقوي الأسباب التي أثارة حماسي لفكرة التظاهر في صحراء قفر أو في وأدٍ غير ذي زرع، أن مثل هذه الأماكن سوف تكون رحبة وواسعة بما يكفي لتطويرعمليات التحرش وهتك أعراض النساء والبنات المتظاهرات وتحويلها إلي جرائم اغتصاب كاملة يباهي بها نظام حكمنا المنحط نظم وحكومات الدنيا جميعا في يوم قيامته القريبة إن شاء الله.