29 % مواليد الجدد في مصر يعانون التقزم.هذا هو مجاز سياسي يتحول إلي واقع يرصده تقرير أخير لليونيسيف وضع اسم مصر في مقدمة الدول المنتجة ل«الأقزام». ليست هناك مسافة كبيرة بين الواقع والمجاز. أسباب التقزم معروفة: سوء التغذية والفقر.ومعناها المباشر أن ثلث القوة الحيوية للمصريين تتجه إلي التقزم.. والمعني السياسي أن مصر مقبلة علي التحول إلي دولة أقزام.تراجيديا مرعبة لدولة يستعدي حضورها نوعاً من النوستالجيا أو تصويرها علي أنها ظل عملاق لقزم يقف متفاخراً بظله. القزم لم يعد رمزاً لسياسة تنسحب من مواقعها وتحولها إلي نصب مهجور.. أصبح واقعاً يسير علي الأرض ويبحث في شوارع مصر عن موقع وسط الزحام وسيكون يوماً من الأيام مع «الأقزام القادمين» ثلث شعب حرمتهم سياسات الأنانية المفرطة من حق «الطول الطبيعي». الحروب كسرت المصريين. أدخلتهم أنفاق الأزمات الاجتماعية لكنهم شعروا وقتها بأنهم أبطال تحرير «فلسطين» ومحاربو الصفوف الأولي..و«السد العالي» في مواجهة العدو الواقف علي «الجبهة». الجبهة الآن مفتوحة.والبطل المصري لم يعلن انسحابه.ترك ظله ليحافظ علي موقعه ورحل إلي عالم آخر. القضية تتحول إلي قضايا.وإسرائيل تتقدم يوماً بعد يوم إلي تحقيق أهداف بلا رادع. والنظام المصري سعيد بظله بينما جسده بالكامل في معركة وجود داخلية علي سرير المرض يبحث عن «خروج آمن للرئيس». مصر تقدم «ماضيها» حين يخطط الآخرون لمستقبل المنطقة.يقول وزير خارجيتها أحمد ابو الغيط : من دفع مثل مصر 100 ألف شهيد ؟ يختار الوزير ونظامه الجانب الغوغائي ليخوضوا سجالات بيزنطية معه.يردون علي الحناجر بينما العقول تطالب مصر بلعب دور «العملاق» الإقليمي الذي يعرف العدل والحق قبل الأمن ...ويعرف خريطة المصالح قبل الاستمرار علي مقاعد السلطة. النظام لا يرد علي الجانب العقلاني. يسعد بالخطابات الفخمة ويعتبرها سبباً للابتعاد والانحسار ...بينما يترك إسرائيل تلهو بمفردها وتصدر قرارات ترانسفير جديدة..وتشحن المنطقة بحروب أهلية بين «الخونة» و«المناضلين» وكليهما محاصر في خانة الدفاع عن الوجود. حرب تشرين كشفت حدود النصر..كما كشفت هزيمة حزيران اتساع نطاق الهزيمة...وهذا ما أعطي مبرراً للسادات وقفزاته الكهربائية من الجبهة إلي طاولة المفاوضات ليصبح المصريون وكما قالت الأغاني والبروباجندا أبطال السلام كما كانوا أبطال الحرب ...وفي الحالتين كان الشعب مجروراً وراء مشاعر تصنعها بروباجندا الإعلام الرسمي..وصدرتها إلي جماهير منهكة من الحياة علي إيقاع الحرب ومواجهة العدو الرابض علي الحدود. هيستيريا الدفاع عن الحرب.لم تختلف كثيرا عن هيستيريا الحروب.لم يتغير سوي اتجاه الحماس.ولم تتغير المعاناة إلا في النوعية.بقي شيء واحد : أن إسرائيل هي أكبر مبرر لتأجيل أحلام المصريين بالخروج من الكهف المظلم.لم تتغير التربية العسكرية في الحشد سواء علي الجبهة أو في الطاولة. بقيت هذه المفاهيم والأفكار تصيب المجتمع بالاحتقان.. والشعور بالعجز..مثل جسد مريض يخسر معركته لأنه لا يعرف من عدوه أو يعرفه ويشعر بالضعف تجاهه. اليوم حصيلة اجتماعات العرب ( مندوبين ومن قبلهم رؤساء ) تساوي صفرا..لان إسرائيل لا تفهم إلا منطق القوة.والقوة الوحيدة للعرب في الدفاع عن المقاعد أو الاستمرار علي القمة. العرب ودعاء إلا في حروبهم الأهلية.يتصالح الخصوم لتنفجر خلافاتهم من جديد.الرئيس الأسد في طريقه إلي القاهرة ليقابل الرئيس مبارك بعد الخروج من النقاهة.مصالحة تبحث عن خريطة وجود لكلا البلدين في ظل هوجة عقاب إيران. هل تؤثر الزيارة في إيقاع المصالحة الفلسطينية؟ وماذا تفيد المصالحة المتأخرة بعدما انقسمت فلسطين إلي «قضيتين»..؟ الأمر يحتاج إلي أكثر من مصالحة.. إلي وعي بالقضية مختلف عن الوعي العسكري الذي أدي إلي تقزيم القوة وتركيزها في سلطوية تستمد وجودها من التفاهم مع العدو لا مواجهته. أحد قادة الحزب الحاكم في مصر قال إن مبارك حمي مصر من التدخل الأمريكي والسيطرة الأجنبية..يقولها بمفهوم خبير سياسي يروج لفكرة «الحكمة» في مواجهة «التهور» أو «النزعة إلي البطولة الحربية حتي لو ضاعت باقي الأرض»..لكنه يبرر «التقزم» الذي جعل مصر في عهد مبارك ترضي بحصار جارتها «غزة» وطرد الفلسطينيين من «الضفة» حيث يسكن حليفها أبو مازن وسلطته..وتكتفي بارسال وفود عسكرية أوروبية وأمريكية لمتابعة أعمال الجدار الفولاذي....هل إيقاع النشاط هنا يدل علي شيء سوي أن «الأقزام قادمون»..؟