الخوف من كل شئ عند دهاشنة ثروت أباظة في (شئ من الخوف).. رسالة الرذيلة والحشيش وفقد العقيدة واللامبالاة عند أهل العوامة في ثرثرة نجيب محفوظ فوق النيل، والحل بأن يفيق الشعب المغيّب.. رسالة مواصفات فتاة جامعة القاهرة المثالية قررها لنا حسن الإمام في (خلي بالك من زوزو).. رسالة الانهزام والتراخي، والإصرار والتحدي في (أغنية على الممر).. رسالة عبادة الحاكم وتقديس العمدة؛ على ظلمه في (الزوجة الثانية)، وانتصار الخير في النهاية.. رسالة التعاطف مع اللص البلطجي في (مولد) عادل إمام، وكيف يصبح الحرامي القاتل رجل أعمال ناجحا ومحبوبا.. رسالة الدعارة والعلاقات المحرّمة والبنت (الفلتانة) في أفلام الدغيدي.. رسالة الملتحي الإرهابي المعقّد الملئ بالكلاكيع النفسية في أفلام وحيد حامد، وقصر الإرهاب على المتدينين (المكشّرين)، الذين يتحدثون الفصحى.. رسالة الشيخ المجذوب الدرويش، والمأذون المُهزأ في العديد من الأفلام عبر عشرات السنين.. رسالة السينما إذن – كما دأب أهلها على القول دائما – مرآة أوضاع المجتمع الذي تُنتَج فيه، وصناعتها قامت على أساس أن مخرج الفيلم يوجه بفيلمه رسالة إلى المشاهد، غالبا ما تتبلور كلماتها ومغزاها في آخر الفيلم. أما ما يحدث هذه الأيام؛ فهو عكس لاتجاه هذه الحقيقة، فمع انهيار صناعة السينما في مصر منذ أكثر من عقدين من الزمان، وتدمير صناعة المسرح منذ أواخر الستينيات؛ يبدو أننا أصبحنا لا نحتاج لهاتين الصناعتين، فالواقع المجتمعي هو الذي يوجه الرسائل إلينا، كأنها أفلام ! بكل ما في الأفلام من تشويق وغرابة وتعقيد، وصدمات ورسائل معلَنة وصلت بالفعل، وأخرى تنتظر الوصول، نحن الممثلون والمخرج مجهول، البلاتوه هو البلد بمدنها وقراها وشوارعها وإعلامها وقنواتها الفضائية، وكاتب السيناريو مجهول، المؤثرات الصوتية صياحا وصراخا وضوضاء ونشازا وأصوات منكرة، وأصوات طلقات الرصاص والخرطوش وفرقعة المولوتوف، بينما مهندسو الصوت مجهولون، كل ما نعرفه هو أشخاص الممثلين، والباقون مجهولون.. سأتناول في السطور الآتية فيلمين مما تجري أحداثهما على ساحة الواقع في مصر هذه الأيام. الفيلم الأول هو ما يفعله الإعلام في زمان ما بعد الثورة، الممثلون هم نحن ومذيعو وضيوف برامج التوك شو في فضائيات التلفزيون، نحن نمثل دور المتلقي وهم يمثلون دور الملقنين، وهم وضيوفهم يلعبون أدوارهم ببراعة فائقة، وحيثما يبتغون قيادتنا ننقاد، فهذا برنامج يقدمه أديب؛ أحد المذيعين المخضرمين، أي من الذين عاصروا – كمذيعين – عصر مبارك بلون، وتغير اللون كالحرباء بعد الثورة، واستضاف المذيع المتلون ثلاث (سيدات) ممن لهن الباع الأكبر في التمثيل؛ بركة وعبيد والدغيدي، وصال الأربعة وجالوا يحشرون فكرتهم حشرا في عقول المشاهدين، فكرة تقبل الشذوذ الجنسي في المجتمع المصري، وطبعا تناولوا الفكرة من منطلق ليبرالي بحت، النساء الثلاثة مثّلن أدوارهن باحتراف منقطع النظير، وخلاصة رأيهن أن الشذوذ الجنسي (للرجال) والنساء حق، لا يستطيع أن يمنعهم عنه أحد، ومن حق كل فرد في المجتمع أن يكون شاذا، وأحد حقوق الإنسان التي يريدون حشرها في أدمغة من يشاهدهم هي حرية اختيار السلوك الجنسي للإنسان المصري، وحين يمتلك هذا الحق؛ يكون اختياره أن يسلك هذه الطريق أو تلك، مثل أمريكا وأوروبا حيث الحرية الجنسية وزواج المثليين، قلن ذلك كله؛ والمذيع الحرباء يتابعهن بأسئلته الساخرة حينا، وتعليقاته المستفزة أحيانا أخرى، وبعد انتهاء الفيلم أو البرنامج؛ وصلت الرسالة، ممثلو الفيلم يريدون أن تصبح حرية الشذوذ والمثلية الجنسية جزءا من مبادئ الحرية التي يزعمون المطالبة بها، ويعتبرونها نابعة من مبادئ الليبرالية والعلمانية، ضاربين عُرض الحائط بكل القيم الدينية؛ إسلامية أو مسيحية.. فيلم آخر؛ كوميدي بكل المقاييس، شخص ملتحٍ أطلق فقاعة هوائية كريهة الرائحة، مفادها أن المسلمين المصريين ينبغي عليهم هدم الأهرام وأبو الهول، لأنها أصنام قد تفتن المسلمين عن دينهم فيرتدّوا إلى عبادة الأهرام والأصنام، فهو يخاف على بني وطنه من الانزلاق في هوّة أبي لهب وأبي جهل، أي إلى جاهلية ما قبل الإسلام، واستضافه الإبراشي في برنامجه ليناقشه في مشروعه (الإسلامي) لهدم لأهرام وأبو الهول، وبالمرّة باقي المعابد والآثار، وأتقن كلٌ من الضيف المهزوز والمذيع اللامع دوره، وبين كلمات المذيع المستهزأة وأسئلته الساخرة؛ يتبين لك القدر الهائل من الهزل في هذا الفيلم، الشيخ مرجان عائد من أفغانستان، وقاتل مع أسامة بن لادن أعظم قادة العالم الإسلامي - كما يرى، ولا يجيز لأحد أن يذكر اسمه مجردا من لقب (الشيخ)، فهو أعظم من صلاح الدين الأيوبي الذي حرر العالم الإسلامي وهزم (التتار)! أي والله هكذا قال !! ويفتخر بأنه شارك في تفجير تمثال بوذا في أفغانستان على عهد طالبان، ويقول إن عمرو بن العاص عندما فتح مصر لم يكن لديه الأدوات التي يستطيع بها هدم أبو الهول والأهرام، ولو كان معه لهدمها !! وبين مداخلات العاملين الخائفين في قطاع السياحة، وابتسامات الإبراشي وضحكاته المتهكمة؛ تمضي أحداث الفيلم مثيرة المخاوف في قلوب المشاهدين من المستقبل، في وجود هؤلاء الممثلين البارعين.. وكأن حياتنا أصبحت سلسلة لا تتوقف من الأفلام التراجيدية والكوميدية، أفلام إهانة المدرسين المصحوبة بانهيار العملية التعليمية، وقدوة الممثلين الأعلى ما كتبه علي سالم في مدرسة المشاغبين، أفلام الكثير من الخوف، التي يمثل أدوارها الرئيسية ضباط وأمناء الشرطة، وبلطجيتهم وخطروهم، وسائقو الميكرو والميني باص، وما تبعها من مآس ومشكلات، أفلام الملتحين والسلفيين والإخوانيين والأبي إسماعيليين والأناركيين اليساريين، أفلام القضاة في غابة القوانين، وما يستتبعها من إثارة للفوضى الدستورية والقانونية والسياسية في جميع أنحاء البلاد، أفلام العشوائيات وما فيها من واقعية مريرة، ونهايات دائما مأساوية، أفلام الريف المصري الذي فقد هُويته، بين التمدن المزيف والقيم الأصيلة الضائعة، أفلام الصراعات المحتدمة بين الطبقات، بين سكان هاسيندا وسيدي عبد الرحمن، وسكان دار السلام وسيدي عبد الرحيم، أفلام السخرية من أشخاص رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وأعضاء جماعة الإخوان ومن كل ذي لحية، أفلام الجرائم التي لم نكن نسمع عنها في مصر، أفلام الفوضى العارمة في الشوارع والطرق، في المدن والقرى، وعلى كل مستويات التعامل.. أفلام أطفال الشوارع والأناركية عند حواجز وزارة الداخلية، وأفلام وأفلام وأفلام، أصبحنا نعيش فيها ليل نهار، وانقلبت بها آية انعكاس الأحوال كما ذكرْت، فأصبح ما يجري في المجتمع أفلاما؛ أُدخِلنا في حلقة مفرغة شريرة من عرضها المستمر، وصلت العديد من رسائلها، والعديد الآخر لم يصل بعد، وكلمة النهاية لا تريد أن تنهي المأساة..! واسلمي يا مصر.