.. أول شيء سأفعله اليوم، وأنا أقف مع زملائي علي دَرَج دار القضاء العالي ومكتب النائب العام، هو قراءة الفاتحة علي روح ضمير القضاء والقضاة، ناظر ومؤسس المدرسة الرفاعية لإصلاح أحوال العدالة القضائية!! سأقرأ بقلبي، ولساني، ووجداني الفاتحة علي روح المستشار يحيي الرفاعي، الذي فارقنا أمس الأول ونعزي أنفسنا فيه مساء اليوم بمسجد عمر مكرم. .. مات الرجل الذي قال «لا» للملك، ولعبدالناصر، وللسادات، ولمبارك- وجهاً لوجه- ودفع الثمن باهظاًَ وبشجاعة نادرة.. دون أن يتراجع يوماً- قيد أنملة- عن مواقفه، وقناعاته، ومطالباته، وأهمها إصلاح واستقلال القضاء المصري عن هيمنة الحاكم، ونفوذ السلطة التنفيذية. .. الأوراق الثبوتية والأخبار الصحفية وشهادة الوفاة الرسمية، تقول إن الرجل الذي ولد في الإسكندرية عام 1931 فارق الحياة بمنزله بالزمالك أمس الأول بعد صراع مع المرض لسنوات، وأن الوفاة طبيعية!! .. بينما الحقائق التاريخية تقول إن يحيي الرفاعي، فارق الحياة منذ 31 ديسمبر عام 2002، وقد حرر بقلمه ودمه شهادة الوفاة، مشيراً فيها تفصيلاً لأسباب الوفاة، وأوصاف وأسماء الجناة، الذين اغتالوه وقتلوا الأمل في قلب الرجل في إصلاح لم يفقد يوماً الأمل فيه، حتي 31 ديسمبر 2002، يوم وفاته الحقيقي!! .. ففي عهد عبدالناصر، كانت رقبة الرفاعي أولي الرقاب المستهدفة في مذبحة القضاة التي تمت يوم 31/8/1969. .. وفي عهد السادات، أمر وزير عدله المرحوم «أنور أبوسحلي» باستبعاد الرفاعي من مكانه بمحكمة النقض. .. وفي عهد مبارك تعرض الرجل لجميع أشكال العسف والظلم والتلفيق الذي طال شخص الرجل وأسرته وبيته ورزقه، وبلغ محاولة اغتياله بمداهمته بسيارة حكومية بعد أيام من إصراره علي مواجهة مبارك في كلمته أمام مؤتمر العدالة الأول والأخير ورفضه طلب الرئيس بألا يتحدث في خطابه عن قانون الطوارئ، لكن الرفاعي أصر وفعلها، مما دفع الرئيس لدعوة مبكرة لمجلس الشعب لمد العمل بالطوارئ، قبل حضوره مؤتمر العدالة!! .. السيارة الطائشة، والتضييق في الرزق، والعلاج والتلفيق والتنكيل بالأبناء، لم يكن هو السلاح الوحيد الذي اغتال الرجل، بل إن اغتياله الحقيقي يوم أن أدرك أن كل الأبواب والآذان والعقول مغلقة أمام جهوده المخلصة للإصلاح، فكتب كلماته الأخيرة في خطاب اعتزاله الاحتجاجي عن ممارسة مهنة المحاماة، وقال فيها: «لا أحد يجهل كل ما يحدث، ولا أحد مع ذلك يكتب أو يعلن كلمة واحدة بفعل نقيصة حكم الطوارئ، وما أورثته لنا من نفاق ورياء وجبن وهكذا اتسع الخرق علي الراتق!! .. كان خطاب الرفاعي لاعتزال المحاماة، صرخة ألم مكتومة تحدث فيها عن غياب الحرية، وتفشي الفساد وبرجوازية القصور، والاستبداد والطوارئ، والتدخل في أحكام القضاء من الحكومة، وشبح التوريث وتزوير الانتخابات.. مختتماً رسالته بمقولة الكواكبي: «إنها قولة حق وصيحة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح قد تذهب غداً بالأوتاد»!! .. في صيف عام 2003 ذهبت للمستشار الرفاعي في منزله القريب من منزلي بالزمالك، وخرج العملاق في قامته وقيمته ليقابلني متسانداً علي عصاه، قدمت للرجل نسخة من برنامج «الغد»، طالباً منه الرأي والنصح وطالباً منه أن يكون أول رئيس شرفي للحزب، حال قيامه، أو رئيساً لمجلس حكماء الحزب، وأباً روحياً لنا في «الغد». .. لم يرفض الرجل ولم يقبل!! فقط قدَّم لي خطاب اعتزاله للمحاماة، موضحاً لي مشاعره من فرط ما يعانيه من ظلم فادح، وعسف وجور لم يحده حد. .. لقد قتل الظلم يحيي الرفاعي قبل المرض.. رحمة الله علي الفقيد، ولعنة الله علي الظالمين!!