وزيرة التنمية المحلية: الانتهاء من مقابلات المتقدمين للوظائف القيادية خلال الأسبوع المقبل    أسعار الحديد والأسمنت مساء اليوم الخميس 15 مايو 2025    رئيس جهاز حماية المستهلك يشهد ختام برنامج "TOT" لتأهيل المدربين ورفع كفاءة الكوادر البشرية    رابطة العالم الإسلامي: رفع العقوبات عن سوريا انتصار للدبلوماسية السعودية    الخطة الأمريكية لتوزيع المساعدات.. ما قصة مؤسسة غزة الإنسانية؟ ومن أعضائها؟    عصام كامل يكشف عن تصريح مهين من ترامب لدول الخليج (فيديو)    تعادل سلبي بين نيجيريا وجنوب إفريقيا في نصف نهائي أمم أفريقيا للشباب    حادث ميكروباص يتسبب في تكدس مروري أعلى المحور    أحمد سعد يحيي حفلين خيريين في أستراليا لصالح مؤسسة راعي مصر    مصر تتصدر قائمة ال101 الأكثر تأثيراً في صناعة السينما العربية | صور    "مطروح للنقاش" يسلط الضوء على ذكرى النكبة    وزير الصحة يبحث مع وفد من الإمارات تطوير الخدمات الطبية بمستشفيي الشيخ زايد التخصصي وآل نهيان    ضبط سيدة تنتحل صفة طبيبة وتدير مركز تجميل في البحيرة    الإعدام شنقا لربة منزل والمؤبد لآخر بتهمة قتل زوجها فى التجمع الأول    استعدادًا للصيف.. وزير الكهرباء يراجع خطة تأمين واستدامة التغذية الكهربائية    محافظ الجيزة: عمال مصر الركيزة الأساسية لكل تقدم اقتصادي وتنموي    تحديد فترة غياب مهاجم الزمالك عن الفريق    أمام يسرا.. ياسمين رئيس تتعاقد على بطولة فيلم «الست لما»    إحالة 3 مفتشين و17 إداريًا في أوقاف بني سويف للتحقيق    لن تفقد الوزن بدونها- 9 أطعمة أساسية في الرجيم    بوكيه ورد وصرف فوري.. التأمينات تعتذر عن إيقاف معاش عبد الرحمن أبو زهرة    جامعة حلوان تطلق ملتقى لتمكين طالبات علوم الرياضة وربطهن بسوق العمل    ملائكة الرحمة بالصفوف الأولى.. "أورام الأقصر" تحتفل بصنّاع الأمل في اليوم العالمي للتمريض    تصل ل42.. توقعات حالة الطقس غدا الجمعة 16 مايو.. الأرصاد تحذر: أجواء شديدة الحرارة نهارا    محافظ الجيزة يكرم 280 عاملا متميزا بمختلف القطاعات    الاحتلال الإسرائيلى يواصل حصار قريتين فلسطينيتين بعد مقتل مُستوطنة فى الضفة    ماريسكا: جيمس جاهز لقمة اليونايتد وجاكسون أعترف بخطأه    ضمن خطة تطوير الخط الأول للمترو.. تفاصيل وصول أول قطار مكيف من صفقة 55 قطارًا فرنسيًا    زيلينسكي: وفد التفاوض الروسى لا يمتلك صلاحيات وموسكو غير جادة بشأن السلام    فقدان السيطرة.. ما الذي يخشاه برج الجدي في حياته؟    موريتانيا.. فتوى رسمية بتحريم تناول الدجاج الوارد من الصين    وزير السياحة يبحث المنظومة الجديدة للحصول على التأشيرة الاضطرارية بمنافذ الوصول الجوية    محسن صالح يكشف لأول مرة تفاصيل الصدام بين حسام غالي وكولر    افتتاح جلسة "مستقبل المستشفيات الجامعية" ضمن فعاليات المؤتمر الدولي السنوي الثالث عشر لجامعة عين شمس    محافظ الإسكندرية يشهد ندوة توعوية موسعة حول الوقاية والعلاج بديوان المحافظة    "فشل في اغتصابها فقتلها".. تفاصيل قضية "فتاة البراجيل" ضحية ابن عمتها    "الصحة" تفتح تحقيقا عاجلا في واقعة سيارة الإسعاف    أشرف صبحي: توفير مجموعة من البرامج والمشروعات التي تدعم تطلعات الشباب    تحت رعاية السيدة انتصار السيسي.. وزير الثقافة يعتمد أسماء الفائزين بجائزة الدولة للمبدع الصغير في دورتها الخامسة    "الأوقاف" تعلن موضع خطبة الجمعة غدا.. تعرف عليها    رئيس إدارة منطقة الإسماعيلية الأزهرية يتابع امتحانات شهادة القراءات    عامل بمغسلة يهتك عرض طفلة داخل عقار سكني في بولاق الدكرور    إزالة 44 حالة تعدٍ بأسوان ضمن المرحلة الأولى من الموجة ال26    مسئول تركي: نهاية حرب روسيا وأوكرانيا ستزيد حجم التجارة بالمنطقة    فرصة أخيرة قبل الغرامات.. مد مهلة التسوية الضريبية للممولين والمكلفين    كرة يد.. مجموعة مصر في بطولة أوروبا المفتوحة للناشئين    فتح باب المشاركة في مسابقتي «المقال النقدي» و«الدراسة النظرية» ب المهرجان القومي للمسرح المصري    شبانة: تحالف بين اتحاد الكرة والرابطة والأندية لإنقاذ الإسماعيلي من الهبوط    تشكيل منتخب مصر تحت 16 سنة أمام بولندا فى دورة الاتحاد الأوروبى للتطوير    جهود لاستخراج جثة ضحية التنقيب عن الآثار ببسيون    ترامب: الولايات المتحدة تجري مفاوضات جادة جدا مع إيران من أجل التوصل لسلام طويل الأمد    رفع الحد الأقصى لسن المتقدم بمسابقة «معلم مساعد» حتى 45 عامًا    تعديل قرار تعيين عدداً من القضاة لمحاكم استئناف أسيوط وقنا    وزير الخارجية يشارك في اجتماع آلية التعاون الثلاثي مع وزيري خارجية الأردن والعراق    أمين الفتوى: لا يجوز صلاة المرأة خلف إمام المسجد وهي في منزلها    أيمن بدرة يكتب: الحرب على المراهنات    جدول مواعيد مباريات اليوم والقنوات الناقلة    حكم الأذان والإقامة للمنفرد.. الإفتاء توضح هل هو واجب أم مستحب شرعًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د.رفعت سيد أحمد يكتب: عبد الناصر والإخوان.. قصة الدم والنار «الحلقة الثالثة»
نشر في الدستور الأصلي يوم 03 - 05 - 2013


هل يعيد التاريخ نفسه فى زمن الربيع العربى؟
مع دخول مصر عام 1954، كان الصراع المكتوم تحت الأرض بين الإخوان المسلمين وبين عبد الناصر ورفاقه، قد بدأ يعبر عن نفسه، بالعنف السياسى والإعلامى تارة وبالعنف الجسدى عبر السلاح والدم تارة أخرى إلى أن وصل إلى رأس النظام السياسى الجديد، إلى جمال عبد الناصر، محاولا عبر ثمان رصاصات، قتله مساء يوم 24 أكتوبر 1954 فى المنشية بالإسكندرية، ليبدأ مع تلك الرصاصات عهدا جديدا فى مصر، وتاريخا جديدا للإخوان، ولعبد الناصر تاريخ من الدم والنار فماذا عنه؟
الإخوان قرروا التخلص من عبد الناصر فى أول أكتوبر 1954.. ووقع الاختيار على سمكرى من إمبابة لتنفيذ الاغتيال
من أجل إعادة الجماعة إلى ما كانت عليه قبل يناير 1954 حاول البعض التوسط لرجوعها على أن تمارس نشاطا دينيًّا فقط ويكون مرشدها عبد الرحمن البنا بدلاً من الهضيبى
من نتائج أزمة مارس خروج الإخوان المسلمين من السجون فى ظل حالة من الهدوء الحذر والتفجر المكتوم بينهم وبين الثورة.. وهو التفجر الذى كان ينتظر عود الثقاب لإشعاله ثانية
عودة وآخرون بدؤوا سلسلة من المحادثات مع الحكومة لاستعادة الشرعية للجماعة.. وطلبوا من الحكومة السماح لهم بزيارة السجون والبحث عن خطط أخرى لإعادتها شملت تأسيس تنظيم دينى جديد تحت قيادة عبد الرحمن البنا
■ ■ ■
صدامات يناير 1954
يحدثنا التاريخ أن الفترة من يناير حتى أكتوبر 1954 قد شهدت قمة الصراع الأول بين جماعة الإخوان المسلمين ومجلس قيادة ثورة يوليو 1952، حيث شهدت صدامين مهمين مثَّلا صدعا عنيفا فى علاقة الإخوان بالثورة، ورتبت تصورات دينية وخبرات ذاتية متناقضة لدى طرفى العلاقة، كان حريا بها أن تُحدث صدامات أخرى، ومواجهات أكثر دموية ما زالت مصر تعانى منها إلى اليوم (2013) حتى بعد أن وصل الإخوان للحكم، لكنهم وصلوا إليه محمَّلين بإرث من الكراهية والغضب لعبد الناصر وعصره، إرث نحسبه سيظل قائما لسنوات طويلة مقبلة للأسف ستكون مصر -لا الإخوان أو الناصريين- هم الضحية!!.


على أى حال.. يحدثنا التاريخ أنه قد سبق قرار حل جماعة الإخوان المسلمين فى 14 يناير 1954 مقدمات عدة مثل الهجوم الضارى الذى قام به الإخوان على هيئة التحرير وتنظيمها الشبابى يوم 12 يناير 1954، وقد بلغت ضراوة القتال بينهما أمام حرم الجامعة حد استخدام الأسلحة والقنابل والعصى وإحراق السيارات فى الجامعة فى ذلك اليوم، وهو اليوم الذى خُصص للاحتفال بذكرى شهداء معركة القناة وكان لوجود الإيرانى نواب صفوى زعيم منظمة فدائيان إسلام محمولا على أكتاف الإخوان تأثيره المباشر على احتداد المواجهة بين الطرفين.


بعد هذه المواجهة بيوم واحد، ونتيجة لحالة الاضطراب والتخبط التى ميَّزت العلاقة بين الإخوان والثورة يومئذ، أعلن مجلس قيادة الثورة قراره الخاص بحل جمعية الإخوان المسلمين واتخذ القرار بالإجماع، فى ما عدا محمد نجيب الذى اعترض من حيث المبدأ لا لأنه يشايع الإخوان، ولكن عدم موافقة نجيب لم تؤثر فى صدور قرار الحل فقد كان هو الصوت الوحيد المعارض، ورغم أنه لم يكن على صلة بهم، لكن هذا الموقف أوجد فى صدور زملائه الخشية أن يكون هناك تدبير ما بين محمد نجيب والإخوان، ويلخص بيان مجلس قيادة الثورة الاتهامات الموجهة للإخوان المبررة للحل وتمثلت فى الآتى:


- التقاعس فى تأييد المرشد العام للحركة إلا بعد خروج الملك.
- عدم تأييد قانون الإصلاح الزراعى والمطالبة برفع الحد الأقصى للملكية فى حالة التطبيق إلى 500 فدان.
- محاولة فرض وصاية على الحركة بعد حل الأحزاب السياسية.
- اتخاذ موقف المعارضة من هيئة التحرير.
- بدء التسرب إلى ضباط الجيش وضباط البوليس وتشكيل وحدات تحت إشراف المرشد مباشرة.
- تشكيل جهاز سرى جديد بعد حل الجهاز السرى الذى كان يشرف عليه عبد الرحمن السندى منذ أيام حسن البنا.
- حدوث اتصال عن طريق الدكتور: محمد سالم بين المستشار الشرقى للسفارة البريطانية فى مايو 1953 ومنير الدلة وصالح أبو رقيق ثم حسن الهضيبى بعد ذلك.
- زيارة حسن العشماوى يوم الأحد 10 يناير 1954، أى قبل قرار الحل بأيام للوزير البريطانى المفوض ثم عودته فى نفس اليوم لزيارة أخرى امتدت سبع ساعات، (وهنا نقول: ما أشبه الليلة بالبارحة).
■ ■ ■
اعتقال الهضيبى
لقد صاحب إصدار هذا البيان، اعتقال حسن الهضيبى و450 عضوا بالجماعة فى القاهرة والأقاليم، وفى اليوم التالى ولعدة أيام شنت الحكومة حملة صحفية ضد الهضيبى والمجموعة المحيطة به وليس ضد الإخوان كجماعة فقط، وتركزت الحملة على مجموع الانتقادات التى ظهرت داخل التنظيم ضد الهضيبى وبوجه خاص فشله فى الاقتداء بشخصية البنا، وإساءته وإهماله جوهر الرسالة، ولم يكن هناك ما يتصل بتهمة قلب نظام الحكم، سوى اكتشاف مخبأ للأسلحة فى عزبة يملكها أحد أعضاء الجماعة، وقد انتشرت على نطاق واسع إشاعة تقول بأن تلك الأسلحة هى بعينها الأسلحة التى سبق أن خبأها أعضاء المجموعة العسكرية قبل الثورة بأنفسهم هناك.


غير أن تنظيم الاخوان استمر رغم هذه الضربات، ورغم حله على المستوى الرسمى وواصل عمله بشكل غير رسمى تحت القيادة غير الرسمية لعبد القادر عودة، حيث التقى الأعضاء الذين لم يتعرضوا للاعتقال فى جلسات صغيرة، عقدت كل منها فى بيت واحد منهم، كذلك سارعوا بتنظيم شبكة لجمع وتقديم الإعانات لعائلات الأعضاء المعتقلين، ورغم أن الحكومة ألقت القبض بالفعل على بعض الأعضاء، وهم يقومون بتقديم الإعانات فإنها لم تكن راغبة فى عرقلة هذه العملية، وفى فبراير وخلال الاحتفال بالذكرى السنوية للبنا والذى أقيم فى مقبرته، أعلن عبد القادر عودة على الملأ اقتناعه بأن الثورة قد حققت أهداف حسن البنا.


وفى ذات الوقت حرص عبد الناصر على أن لا يقطع الصلة نهائيا بالإخوان فقام فى 12 فبراير وفى نفس الذكرى السابقة بزيارة قبر حسن البنا ومعه صلاح سالم وأحمد حسن الباقورى، وخطب قائلا: «أشهد الله أنى أعمل وكنت أعمل لتنفيذ هذه المبادئ وأفنى فيها وأجاهد فى سبيلها»، وبدأ عبد القادر عودة مع آخرين سلسلة من المحادثات الخاصة مع الحكومة لاستعادة الشرعية للجماعة، وقد طلب من الحكومة فى هذا الصدد السماح له بزيارة السجون كما التمس استقالة الهضيبى، وكانت هناك خطط أخرى قيد المناقشة شملت تأسيس تنظيم دينى جديد تحت قيادة عبد الرحمن البنا.
■ ■ ■

أزمة مارس والصراع بين الجنرالات
على أن كل شىء توقف فجأة، بل وتبدل فجأة عشية الأزمة السياسية التى طوقت مصر كلها والتى سميت بأزمة مارس 1954، وكانت بين محمد نجيب وعبد الناصر، وتتلخص أسباب ووقائع هذه الأزمة فى أنها كانت مرتبطة بمطالبة محمد نجيب بسلطات تتناسب مع مكانته وحول الأسلوب الواجب اتباعه فى إدارة شؤون مصر، فمن وجهة نظر محمد نجيب الأكبر سنا أن عملية إبعاد كل القوى الاجتماعية مع استمرار مسيرة الثورة أمر لا يحتمل، ولا بد من مشاركة كل القوى فى هذه المرحلة فى إصلاح البلاد، على الناحية الأخرى كان عبد الناصر وهو ابن جيل آخر وذو اقتناع مختلف ومتطور قد نفد صبره حين أدرك أن مسألة الحفاظ على استمرار عملية التغيير وعمق تأثيرها تعنى أنه لا رحمة مع الذين يعارضونها.


ومع تزايد حدة العداء للنظام الجديد من القوى المعارضة تزايدت ضرورة إجراءات القمع، وتصاعد الخلاف بين الرجلين حول من يمتلك سلطة الحسم الأخيرة فى شؤون البلاد، وكيفية استخدام هذه السلطة، ويتصاعد مع استقالة محمد نجيب فى 23 فبراير، وفى الليلة التالية تمت محاصرة منزل محمد نجيب، وفى 25 فبراير حملت الصحف أنباء البوادر الأولى للانقسام داخل مجلس قيادة الثورة، وفى 26 فبراير وبعد تمرد سلاح الفرسان حيث كانت الأفكار الديمقراطية تجد مجالا خصبا للنمو «كنتيجة لوجود خالد محيى الدين ضابطا بمخابرات السلاح وثروت عكاشة أركان حرب السلاح الذى كانت تربطه صلة النسب بأحمد أبو الفتح رئيس تحرير المصرى».


بعد هذا العصيان المسلح وخروج مظاهرات تأييد لنجيب اضطر مجلس قيادة الثورة إلى أن يعلن إعادة تقلد نجيب منصب الرئاسة، ولم تنته الأزمة لأن المشكلة الأساسية والخاصة بمن الذى يملك السلطة وأسلوب استخدامها، ظلت دون حل، وفى التاسع من مارس أعلنت الحكومة أن نجيب سوف يسند إليه ثانية منصب رئيس الوزراء ورئيس مجلس قيادة الثورة، فى ذلك الوقت كتب الهضيبى رسالة إلى محمد نجيب من السجن يطلب فيها الإفراج عن الإخوان المسلمين حتى تتم موازنة الموقف، وانضمت إليه مجلة «الدعوة» الناطقة وقتذاك بلسان حسن العشماوى ومجموعة المطالبين بالإفراج عن الإخوان واصفة قرار الحل الذى صدر فى يناير بأنه كان خطأ.


وفى يوم 25 مارس 1954 أعلن مجلس قيادة الثورة، فى ما اتضح بعد ذلك أنه كان مناورة بارعة من عبد الناصر أن الثورة قد اقتربت من إنهاء مهمتها، وأن البلاد سوف تستأنف الحياة البرلمانية السوية، وفى ذات الوقت وتحت ظروف وتدخلات متعددة كان آخرها وساطة الملك سعود، أمرت وزارة الداخلية بالإفراج عن الهضيبى والإخوان المسلمين تطبيقا لقرار صدر بإلغاء قرار يناير 1953 بشأن إلغاء الأحزاب السياسية، ورفعت الرقابة تماما عن الصحف وأصبح فى إمكان أى شخص أن يقول ما يشاء يومئذ.


وفى الثامن والعشرين من مارس وبعد ثلاثة أيام من الحرية الكاملة وغير المحدودة للمعارضة تحرك عبد الناصر وامتلأت الشوارع يومئذ بالمظاهرات الشعبية التى تطالب بالحفاظ على الثورة وأهدافها وباستمرار إلغاء الأحزاب السياسية، واندفعت حشود ضخمة من أعضاء اتحادات العمال والنقل التى خرجت فى ذلك اليوم ومعها الشباب المنتمى للمنظمات الشبابية الحكومية، تحملهم عربات النقل الخاصة بهيئة النقل يعربون عن أن الثورة قد جاءت لتبقى، وكان الاعتداء على جريدة «المصرى»، وعلى مجلس الدولة، من أبرز ما حدث فى هذه الأثناء، وتم تدعيم هذه التحركات من الجيش، وتحديدا من ضباط الصف، والضباط المؤيدين لعبد الناصر أمثال كمال الدين رفعت، وأحمد أنور ومجدى حسنين ووجيه أباظة وحسن التهامى، ومحمد أبو الفضل الجيزاوى وسعد زايد وغيرهم.


وفى ذات المساء -29 مارس 1954- أصدرت الحكومة أوامر بحظر التظاهر منذ الآن فصاعدا، وفى اليوم التالى واستجابة للإرادة الشعبية السابقة قرر مجلس قيادة الثورة مرة أخرى أن يأخذ على عاتقه مسؤولية الحكم كاملة، وألغيت مرة ثانية كل الأحزاب السياسية باستثناء جماعة الإخوان المسلمين الذين وعد قادتهم بحسن التصرف، والذين اتفقوا على أن يجنحوا للسلبية فى هذه الأيام الحرجة، وأن يبتعدوا عن الاشتراك فى أى مظاهرة معادية للمجلس، وباتت البلاد فى قبضة مجلس قيادة الثورة مرة أخرى. وهكذا أخرجت أزمة مارس الإخوان المسلمين من السجون، وخلقت حالة من الهدوء المشوب بالحذر والتفجر المكتوم بينهم وبين الثورة، وهو التفجر الذى كان ينتظر عود الثقاب لإشعاله ثانية.
■ ■ ■
السعودية تتوسط والهضيبى يهاجم الثورة مجددا
سبق أن رأينا أن الجهود كانت تبذل من أجل إعادة الجماعة إلى سابق عهدها قبل يناير 1954 على أن تمارس نشاطا دينيا فقط، ويكون مرشدها عبد الرحمن البنا بدلا من الهضيبى، وقد أتاح حضور الملك سعود إلى مصر لهم الفرصة ليرتفع صوتهم مطالبا بعودة الجماعة، حيث كان من بين أهداف زيارة الملك سعود التوسط فى أمر إعادة الجماعة، وبالفعل نجحت الوساطة ورأت الثورة أن تعيد الجماعة، وتم الإفراج عن الهضيبى والمعتقلين من الإخوان ثم صدر قرار مجلس قيادة الثورة بإعادة الجماعة وتسليمها ممتلكاتها، وسمح للمرشد العام «الرئيسى» حسن الهضيبى وعدد من الإخوان بالسفر إلى سوريا والسعودية، وهناك أدلى المرشد العام بتصريحات ضد الثورة وضد اتفاقية الجلاء، وفى 27 يوليو، أى وقت أن كان الهضيبى بالخارج أعلنت حكومتا مصر وبريطانيا موافقتهما المشتركة على عدد من المبادئ العامة كأساس لمعاهدة جديدة تسوى النزاع الإنجليزى - المصرى، لكن فى 31 يوليو نشرت صحيفة بيروتية «جريدة الهدف» بأحرف ضخمة وعناوين بارزة، رأى حسن الهضيبى فى الاتفاقية، وكانت النقاط الرئيسية فى نقده هى كما يلى:
- كان من المفروض أن ينتهى أجل معاهدة 1936 بعد أقل من عامين، وعند ذاك كان على بريطانيا أن تجلو عن القاعدة وأن تتركها دون أساس قانونى يمكنها من العودة إليها فى ما بعد، أما المعاهدة الجديدة فتمنحها هذا الحق باشتمالها على مادة تسمح بإعادة تشغيل القاعدة فى حالة حدوث أى اعتداء على أى دولة عربية أو على تركيا.
- المادة التى تسمح بإعادة تنشيط القاعدة فى حالة اعتداء على تركيا يربط مصر والدول العربية بها، وبالتالى يربطهم جميعا بالمعسكر الغربى.
- الفقرة التى تسمح لبريطانيا بصيانة القواعد الجوية تمثل تهديدا لمصر، وهى على المدى الطويل أداة لدوام السيطرة.
- المدنيون الذين سيناط بهم المساعدة فى تشغيل المعدات هم، بطبيعة الحال، شخصيات عسكرية فى ثياب مدنية.


- جددت الاتفاقية أجل معاهدة 1936 لفترة خمس سنوات أخرى، وسمحت بإجراء تشاور لمراجعة الموقف عند انتهاء فترة العمل بها، وهو نفس النوع من البنود التى كفلت فى الواقع الاستمرار الدائم لمعاهدة 1936، بناء على هذه البواعث جميعا رفض الهضيبى الاتفاقية مؤكدا أن أى اتفاقية بين مصر وحكومة أجنبية ينبغى أن تعرض على برلمان منتخب بإرادة حرة، وعلى صحافة متحررة من الرقابة، وتملك حرية المناقشة، وقد ظل التوتر الذى أثارته هذه الآراء محكوما ومسيطرا عليه طوال فترة تغيب الهضيبى، الذى كان لا يزال فى سوريا، وعبد الناصر الذى سافر إلى السعودية من 5 إلى 17 أغسطس بغرض الحج وحضور مؤتمر لقادة البلدان الإسلامية الذى اقترح عقده مؤخرا فى مكة، وعاد الهضيبى يوم الأحد الموافق 22 أغسطس، وفى نفس اليوم بدأت الحكومة حملتها العنيفة لتفنيد هجومه على الاتفاقية معتمدة أساسا على إحياء قصة المعاهدة السرية التى قيل إن الهضيبى كان يتفاوض بشأنها مع البريطانيين فى ذلك الربيع، والتى قيل إنه خلالها تنازل أكثر مما تنازلت الحكومة.
■ ■ ■
رصاصات أكتوبر والتاريخ الفاصل

واستمرت الحملات المتبادلة بين الجماعة وبين الثورة طيلة شهرى أغسطس وسبتمبر عام 1954، ويأتى شهر أكتوبر ليشهد انفجار الصدام بين الإخوان المسلمين والثورة، فمنذ الأيام الأولى للشهر قررت المجموعة التى سميت بقيادة الجهاز السرى، القيام باغتيال عبد الناصر الذى كانت سيطرته الفعلية على البلاد قد وضحت وتحددت، وقد اختارت القيادة محمود عبد اللطيف، وهو سمكرى من ضاحية إمبابة، لإنجاز هذا العمل، وكان هنداوى دوير المحامى وقائد قطاع إمبابة هو الذى أبلغه بهذا القرار، وترك له ثلاثة أيام مهلة لاتخاذ قراره، وفى 19 أكتوبر وهو اليوم الذى وقع فيه عبد الناصر معاهدة الجلاء مع البريطانيين، قرر محمود عبد اللطيف قبول مهمة اغتياله بسبب ما ارتكبه من خيانة بتوقيعه للمعاهدة التى أهدرت حقوق الأمة، وفقا لما اعتقده وقاله لاحقا فى التحقيق معه!! وقد خطط لتنفيذ المهمة فى نفس اليوم، إلا أن الظروف لم تكن مواتية وسط هذا الحشد المتجمع والمختار بعناية لتنفيذ الخطة بنجاح، لذا تم تأجيلها إلى وقت آخر أكثر ملاءمة.


وفى الرابع والعشرين من أكتوبر زار كمال خليفة وهو واحد من أبرز أعضاء مكتب الإرشاد جمال سالم نائب رئيس مجلس الوزراء وأطال فى تهنئته بالمعاهدة، وفى ذلك المساء وبينما كان عبد الناصر يلقى خطابه أمام حشد كبير من المواطنين فى المنشية بالإسكندرية انطلقت عدة رصاصات وللحظة قصيرة توقف عبد الناصر عن الكلام بينما الرصاصات تدوى، وكان محمود عبد اللطيف يجلس فى الصفوف الأمامية على بعد 15 مترا من منصة الخطباء والضيوف، وأصيب ميرغنى حمزة وزير خارجية السودان، والمحامى أحمد بدر الذى كان يقف بجانب جمال عبد الناصر -والذى لم تصبه الرصاصات- وأصر على متابعة خطبته بعدما حدث فى السرادق من هرج مرددا قوله: «أيها الرجال فليبق كل فى مكانه.. حياتى لكم، وهى فداء لمصر، أتكلم إليكم بعون الله بعد أن حاول المغرضون أن يعتدوا علىّ، إن حياة جمال عبد الناصر ملك لكم عشت لكم وسأعيش حتى أموت عاملا من أجلكم وفى سبيلكم».


وكانت حادثة الاعتداء نقطة تحول هامة فى مشاعر الشعب الذى كان يرفض إرهاب الإخوان المسلمين قبل 23 يوليو 1952، ونقطة تحول أخرى لصالح شعبية عبد الناصر الذى قام بجولة يوم 27 أكتوبر فى رحلة عودة من الإسكندرية إلى القاهرة، ولقد قوبل بمظاهرات تأييد له.
■ ■ ■


وفى ليلة الحادثة صدرت الأوامر باعتقال الإخوان المسلمين، وبدأت أكبر حملة شهدتها مصر حتى وصل الأمر إلى حد إعطاء المعتقلين بطاقات يسجلون فيها أسماءهم وعناوينهم لتدون فى كشوف سليمة، وشكل مجلس قيادة الثورة فى أول نوفمبر 1954 محكمة خاصة باسم «محكمة الشعب» برئاسة جمال سالم وعضوية أنور السادات وحسين الشافعى، فكانت بهذا رابع نوع من المحاكم تشكله الثورة بعد المجالس العسكرية، ومحكمة الغدر، ومحكمة الثورة، وقد شكلت ثلاث دوائر فرعية من محكمة الشعب، الأولى برئاسة اللواء صلاح حتاتة، والثانية برئاسة قائد الجناح عبد الرحمن عنان، والثالثة برئاسة القائمقام حسين محفوظ ندا، ولقد اضطرب الشهود وانتابهم الخوف، كما أنهم فى الأغلب الأعم كانوا يفتقرون إلى الحياد أما الأدلة فكانت حافلة بالمتناقضات، وكان مرجع ذلك إلى أسلوب معاملة الشهود من ناحية، وإلى تحفظ الشهود وعدم توفر الرغبة لديهم فى الإفصاح، وفضلا عن ذلك فقد عكست هذه الأدلة من جهة ثانية وضع كل شاهد داخل الجماعة، وبالتالى عكست المستويات والمنطلقات المتعددة التى نُظر منها للمسائل موضع التحقيق، كما أن السهولة الملحوظة التى انهار بها الولاء، ووجه بها الأعضاء أصبع الاتهام كل منهم نحو الآخر، أظهرت إلى أى مدى اهتزت مشاعر الثقة المتبادلة، ونفس الشىء حدث أيضا فى التحقيقات التمهيدية والتى ظهرت من خلال معظم الاعترافات. وفى الرابع من ديسمبر نطق الحكم الأول فى «محكمة الشعب» تلته الأحكام الأخرى، فلقد بلغ عدد الذين حكمت عليهم محاكم الشعب (867)، وعدد الذين حكمت عليهم المحاكم العسكرية من المتهمين الذين ينتمون إلى الجيش (254)، وصدر الحكم بإعدام محمود عبد اللطيف ويوسف طلعت، وهنداوى دوير وإبراهيم الطيب وعبد القادر عودة ومحمد فرغلى ونفذ الحكم فعلا، كما صدر حكم بإعدام حسن الهضيبى ثم خفف الحكم إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، ثم حكم على سبعة آخرين بالأشغال الشاقة المؤبدة.
■ ■ ■
حصيلة الصدام
وهكذا ومع وصول الصدام الأول بين الثورة والإخوان إلى نهايته الدرامية تلك، كانت الأوضاع فى مصر قد تحددت تماما، فعزل محمد نجيب من رئاسة الجمهورية، وتم حل جميع الأحزاب السياسية، بما فيها الإخوان، ووجود قيادتها داخل السجن، وأغلقت جريدة «المصرى»، التى لعبت دورا كبيرا فى أزمة مارس 1954، وفشلت محاولات الانقلاب العسكرى وانتهاء التنظيمات العسكرية المستقلة أو التابعة للقوى السياسية الخارجية داخل الجيش، ثم حلت مجالس نقابات الصحفيين والمحامين وعينت لها لجان مؤقتة موالية لمجلس قيادة الثورة، وأخيرا حلت جماعة الإخوان المسلمين، واستقرت الأوضاع تماما للنظام السياسى الناصرى الجديد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.