عودة مرة أخري لإحدي قنوات التليفزيون الخاصة التي تخاصم اللغة العربية الفصحي وتأخذ منها موقف المقاطعة التامة، وتستخدم بدلاً منها عامية ركيكة تعكس مستوي فكرياً متواضعاً يتصورونه فرط وطنية وانحيازاً لمصريتنا حماها الله!. سبق أن كتبت في هذا الموضوع ولا أري بأساً في أن أعود إليه من وقت لآخر لأنه موضوع مهم وحيوي وفي الوقت نفسه مغرٍ وجالب للسخرية والهزوء من المتحمسين له والمدافعين عنه!. السؤال هو: ما المنطلقات الفكرية التي حدت بأصحاب فضائية «أو تي في» إلي أن يقاطعوا لغتنا الجميلة ويحرصوا علي ألا يتسلل لفظ عربي فصيح واحد إلي مشاهديهم من خلالها وذلك خشية أن يلتقط بعض المشاهدين العدوي ويتصوروا لا سمح الله أن جمهورية مصر العربية هي بلد عربي؟!. قيل لي إن أصحاب القناة هم من الوطنيين العظام الذين يؤمنون بمصرية مصر ولا يعترفون بعروبتها، ولا يحبون الانتساب إلي الفضاء العربي المكون من دول متضاربة متطاحنة أصبحت خارج الزمن وتوقفت تماماً عن الإسهام في الحضارة الإنسانية وصارت عالة علي الغرب. و الحقيقة أنني لا أصدق هذا الكلام وذلك لعدة أسباب أولها: إن من يتبرأون من انتساب مصر العربي نتيجة الاستبداد وتدهور أحوال الحريات في البلاد العربية لم يُعرفوا أبداً كمناضلين في سبيل الديمقراطية وتداول السلطة في مصر، علي العكس هم أول من يناصر التأبيد في السلطة ويرتعبون من الديمقراطية.كما أنه لا يصح من الناحية الأخلاقية أن نعتمد في البيزنس ومراكمة المليارات علي فلوس المستهلكين العرب ومن ضمنهم المصريون ثم نتنكر لتراثهم اللغوي ونسعي لتشويهه! وعلي من ينظرون باحتقار إلي اللغة العربية أن يبتعدوا عن العربية تماماً وليأتوا لنا بلغتهم الخاصة وليقدموا بها موادهم في قنواتهم سواء كانت هذه اللغة التي يعتزون بها هي الهيروغليفية أو السريانية أو الآرامية أو القبطية أو الرومانية القديمة أو أي لغة تعيدهم إلي مجدهم التليد وأيامهم الحلوة قبل الفتح العربي لمصر الذي أتي لهم بلغته العربية المزعجة.. فلماذا لا يفعلون؟. ثانياً: إنهم وهم يعادون اللغة العربية فإنهم يعبرون عن هذا العداء باستخدام إحدي لهجاتها وهي اللهجة المصرية التي لفرط سذاجتهم يظنونها لغة أخري غير العربية! وهذا لعمري منتهي الاستعباط، فإذا كانوا يكرهون المستعمر العربي ولغته فلماذا يستخدمون إحدي لهجات لغة نفس المستعمر، وكان الأدعي أن يستخدموا لغة أجنبية كالإنجليزية أو الفرنسية حتي يقوموا بإعداد الجمهور وتعليمه لغتهم الحقيقية التي لا أعلم ما هي!. ثالثاً: إن من ضمن ما أسمعه من تفسيرات هو: نحن مصريون ويجب أن نستخدم لغتنا التي وإن كنا قد اشتققناها من العربية إلا أنها صارت خاصة بنا ودالة علينا ولا أحد يتحدثها غيرنا، لذلك يجب أن نعتمدها ونتمسك بها كدليل علي انتمائنا الوطني ومصريتنا الصميمة. ولهؤلاء أقول ولماذا لا تقدمون لنا تفسيراً يوضح أسباب تفضيلكم عامية سكان القاهرة وحدها في قناتكم الفضائية؟ ألا تعترفون بملايين الصعايدة كمصريين؟ ألا تحملون احتراماً للهجة أهل بورسعيد؟ ألم تستمعوا إلي فئة من المصريين تسكن مرسي مطروح والصحراء الغربية تتحدث بلهجة خاصة بهم؟ ألم يصل إلي سمعكم كلام المصريين من أهل النوبة؟ وغير هذا كثير كلهجة الاسكندرانية والفلاحين من أهل الدلتا وغيرهم..فلماذا اللهجة القاهرية الركيكة وحدها التي تتمسكون بها وتزعمون أن التحدث بها هو دليل انتماء لهذا الوطن؟. في ظني أن الموضوع لا علاقة له بحب الوطن والتمسك بالهوية المصرية بقدر ما هو كراهية عميقة للغة العربية الفصحي وما تمثله وللهجاتها جميعاً سواء الخليجية أو المغربية أو الشامية أو المصرية بتنويعاتها، وما التمسك بلهجة أهل القاهرة إلا وسيلة للوصول إلي شريحة معينة من المشاهدين هم الذين تتوجه إليهم القناة وتسعي إلي سلخهم عن محيطهم المصري العربي وجعلهم معلقين في الفضاء فلا هم أتقنوا لغة الشعر والأدب ولا هم اكتسبوا لغة تصلح لأي شيء سوي الروشنة والإغراق في التيه.إذن الغرض في تقديري هو ضرب اللغة العربية من خلال مسخها وتكوين رأي عام يسخر من لغة الضاد ويتحيز للغة «أو تي في» متصوراً عن جهل أو عن سوء نية أنها لغة المصريين!. أكاد ألمح قارئاً حصيفاً يود أن يسأل هل هناك علاقة لهذا كله بالقرآن الكريم كتاب المسلمين المقدس الذي نزل كمعجزة بلاغية منحت اللغة العربية قيمة كبري وحفظت لها تألقها علي مر الزمن؟. و الإجابة المؤسفة هي: بالتأكيد نعم.