كم يتردد معظمنا في الاعتراف بأن الآخر «عنده حق»، كلما يشغلنا عندما يواجهنا أحد بانتقاد أو رأي مخالف، هو كيفية الرد عليه وإثبات خطئه، بل الغضب لأنفسنا وتفسير ما يقول علي أنه غيرة ومحاولة للنيل منا.. والقوي فينا حقًا هو من يراجع نفسه ويعترف عن قناعة للآخر قائلاً: «عندك حق». يتطلب الأمر أن نفكر في منطقية وصواب القول الذي يطرح علينا وألا نتشبث برأي ما لأنه يمثل رؤيتنا الشخصية، بل لأننا نعرف فعلاً أنه الحق. في الفيلم الأمريكي «سبانجليش» يتهم بطل الفيلم البطلة بالنفاق لأنها تشكو من قيامه بتصرف هي نفسها قامت به، ويفاجأ بأنها ترد «إنني أشعر بالإحراج، معك حق، إنه فعلاً نفاق».. ويرد بدهشة: هل تعرفين كم هو شئ قوي ومدوي أن تقول شيئًا وتجد الطرف الآخر يعترف بمنطقك؟!». في يوم من الأيام كنت أتجادل مع والدتي وكنت أشعر بأن الحق معي، ولم أكن أستمع إلي منطقها، حتي قالت لي عبارة جعلتني أراجع نفسي وأنظر إلي الأمر بنظرة مختلفة، قالت: حسنًا، إذا كنت تعتقدين أنك علي حق، وأن موقفك صائب فإنني أدعو الله أن يرزقك ابنة، تأخذ نفس موقفك.. وتقف لتجادلك بنفس الطريقة» عندها فقط أصابني الخوف، تصورت أنني سأكون الأم في ذلك الموقف وسيكون لي ابنة تجادلني وتصر علي موقفها، ساعتها تفهمت واستوعبت الأمر لمجرد أن نظرت بعيون الطرف الآخر «الأم». وأتساءل أحيانًا، لماذا لا يكون واقعنا مثل قصص الأطفال التي كانت تُحكي لنا ونحن صغار؟ كانت تلك القصص واضحة ومحددة.. كان فيها الطيب والشرير، ولذا كان من السهل أن ننحاز للطيب، وأن نكره الشرير.. كانت مواقفنا واضحة لأن الأمور كانت بسيطة ومحددة، لم يكن هناك شرير يدعي الطيبة ويقول إنه يفعل ما يفعل من أجل مصلحة الجماهير، أو شخص طيب تتهمه الصحافة بأنه انتهازي ومدفوع من دول أجنبية ويهاجم بلده. القصص بسيطة والأمور شفافة، حتي الأسماء في القصص تحمل صفات أصحابها:الشاطر حسن، الساحرة الشريرة، وست الحسن والجمال.. أصبحت الأمور ضبابية، وأصبحت الحيرة والارتباك تغلف مواقفنا، أو علي الأقل مواقف الأجيال الجديدة. تلك الأجيال تريد منا أن نضع لها صفات بجوار الأسماء التي تحيط بها.. زمان كان هناك الكخ والدح وطريق السلامة وطريق الندامة..والناس الطيبون، والناس الأشرار. حتي أحوال المناخ زمان كانت محددة وفاصلة، كنا نعرف بدايات ونهايات الفصول باليوم والساعة، بالتالي كنا نعرف كيف نتعامل معها ماذا نرتدي وماذا نأكل ونشرب.. الآن الجو غير محدد، تداخلت الفصول والمواسم..أصبحنا نأكل فاكهة وخضر الشتاء في الصيف والعكس صحيح.. لا شيء واضح.. أصبحنا في عز أشهر الشتاء، نخرج إلي الشرفة لنتعرف علي مدي حرارة الجو يومًا بيوم وكيف نتعامل مع هذا اليوم أو ذاك، حالة بحالة..لم تعد هناك فصول واضحة المعالم، كما كنا ندرس ونحفظ: «حار جاف صيفًا، دافئ ممطر شتاءً». وفي السياسة، أصبحت الدول العميلة تسمي دولاً حليفة، ويطلق علي جيوش الاحتلال جيوش الدفاع، وحركات المقاومة إرهابًا. وعلي مستوي البشر، تختلف آراء الناس وتحليلاتهم للموقف الواحد وللشخص الواحد، وتتفاوت إلي حد التناقض، فمن يراه البعض بطولة، يراه الآخرون خيانة. ولكن لماذا يري الناس الشيء الواحد بصور مختلفة وبمنطق متناقض؟ هل الأمر أصبح معقدًا إلي تلك الدرجة؟ هل تداخل الحق والباطل بصورة أصبح من الصعب التمييز بينهما؟ هل أصبحت الطبيعة في تقلبها وعدم استقرارها أكثر منطقية من مواقف البشر؟ قالت لي الشابة التي تخرجت مؤخرًا في الجامعة: الحق واضح والباطل يعمي العيون، لكن الناس هم من يختارون أن يغضوا البصر، ليبرروا لأنفسهم مواقفهم المتهاونة والمهادنة. ليزينوا اختيارهم منطق الصمت والاستكانة، أو حتي التورط والمشاركة. ثم قالت بحماس: «إنني أفضل أن اتهم بالسذاجة لإصراري علي رؤية الأمور باللونين الأبيض والأسود علي أن اتهم بميوعة الموقف. أفضل أن أنحاز للحق، ولا أقبل وجود اللون الرمادي. في تلك اللحظة رددت في سري دعاء «اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه».. وعندما تمعنت في كلمات الدعاء، أدركت أن المسألة تكمن في رؤيتنا نحن، فالحق كان وسيظل حقًا والباطل كان وسيظل باطلاً، لكننا نحن من فقدنا القدرة علي الرؤية.