لم أتلق دعوة رسمية من الأستاذ سيد جارنا لحضور حفل صاخب نصبه مساء أمس الأول في باحة عمارتنا، غير أن حظي علي غير المعتاد كان جيدا، إذ هبط الأسانسير بي وصرت جزءاً من الحشد الذي بدا سيد متألقاً كعريس في قلبه، عند لحظة مناسبة تماما وقبل أن تبدأ أقوي فقرات الحفلة وأكثرها جاذبية ولطفا. ورغم أن من رأي بعينه مثل حضرتي ليس كمن سمع أو سيقرأ فقط مثل حضرتك، فإنني مضطر لأن أرسم لك بالكلمات ملامح وتفاصيل ذلك المشهد الاحتفالي المثير الذي شعرت بزخمه بمجرد أن غادرت عتبة شقتي ووقفت أمام باب المصعد، فقد فوجئت بصوت طنين يقرع مسامعي بقوة وظل هذا الطنين يزيد ويعلو، بينما الأسانسير ينزلق بثبات نحو أرض الله الواسعة، فلما استقر عليها كان الصوت قد استحال ضجة عظيمة أدهشتني وأثارت فضولي لدرجة أنني نسيت المشوار والغرض اللذين نزلت من البيت لأجلهما. دفعت باب المصعد فإذا بصوت «تزييقه» المزعج يضيع في خضم الجلبة والزحام الذي تبين لي فورا أن جاري العزيز وليس أي أحد غيره هو سببه وبطله الوحيد، وأن كل هذا الجمع المتنوع ما بين بوابين وسكان وناس فاضية وعابري سبيل، ما كان له أن يلتئم لولا وجود الأستاذ سيد.. ولعلي الآن لا أذيع سرا فظيعا لو اعترفت بأن ظنوني السيئة جعلتني أشك أول الأمر أن سيد ربما ضبط متلبسا باختلاس شيء من «إكسسوارات» إحدي السيارات طراز «128» المنتشرة في شارعنا والتي كثر الحديث مؤخرا عن أن بعض أولاد الحلال ممن يملكون طرازات مماثلة صاروا يستسهلون استعارة قطع غيارها الظاهرة (كالغطاء البلاستيكي للعجلة والفوانيس و«غمازات» الرفارف وخلافه) ويضعونها في سياراتهم هم بدلا من تجشم مشقة شراء هذه القطع التي، قبل أن تصبح «دوارة» تنتقل بخفة من سيارة لأخري، لم يكن يمر صباح دون أن يقف أحدهم في وسط الشارع وهو يزعق غاضبا شاكيا من سرقتها ومن شيوع وانتشار النتانة واللصوصية وقلة الضمير. والحق أنني سرعان ما أدركت خطأ اعتقادي واستغفرت ربي كثيرا علي ظني السيئ بسيد جارنا عندما وجدته واقفا مبتسما منتشيا وسط الحشد يستمع بأناة وتواضع إلي عبارات وهتافات تداخلت واختلطت لكنها تشي جميعا بإعجاب واضح بشطارته، عندئذ تفاقم فضولي لكني كبحت بالعافية جماح نفسي وقمعت رغبتي الملتهبة في السؤال : هي إيه الحكاية ياجماعة ؟! بيد أن الحكاية أخذت تنجلي وتتضح رويدا رويدا بينما أنا أستمع بشغف لتساؤلات أمطرت بها الجماعة جاري العزيز وجاوب هو عنها بمنتهي الفخر والحماس، وكانت كلها من نوع : ..و«الشادر» ده فين بالظبط يا أستاذ سيد ؟ في شارع التحرير.. آخر شارع التحرير علي اليمين وأنت جاي من عند الشيراتون.. بعد «البحوث»..؟ آآآيوه.. اسم الله عليك.. بعدها علي طول، ح تلاقي الشادر واللحمة متعلقة عليه شكلها يفرح.. والكيلو بكام ؟ حسب.. يعني البتلو المحترم بخمسة وخمسين.. الكندوز الصغير ح يقولك برضه بخمسة وخمسين، قوله لأ، بخمسين بس ياحاج.. ح يوافق. وعنده مواسير ؟! عنده كل حاجة.. مواسير ومفروم وحواوشي وكل حاجة.. يا سلام.. آه وعهد الله.. والدبايح بتاعته علي كده بقي صابحة ومضمونة، ولاَّ من الحاجات البراني المعفنة اللي بيقولوا عليها. والله بقي براني.. جواني.. ماعرفش.. لكن زي ما بقولك، حتة اللحمة اللي خدتها من عنده دلوقتي أهيه.. زي الفل. لوح سيد بكيس بلاستيك أسود كان مخفيا وضائعا في الزحام، وبدا أنه علي وشك أن يفتحه ليعرض علي المشاهدين «حتة اللحمة»، لكن أحدهم تدخل لمنعه قائلا له برقة : صادق والله يا أستاذ، بالهنا والشفا.. غير أن الأستاذ واصل دفاعه عن شادر اللحمة الرخيص الذي يعود له فضل اكتشافه قبل غيره، فقال موضحا: وبعدين الراجل زي ما بقولكم ناصب «الشادر» بتاعه في شارع التحرير العمومي والحكومة رايحة وجاية عليه.. طيب ما هي دي المشكلة يا أستاذ سيد.. لم يعلق سيد لأنه لسوء الحظ الذي عاد وداهمني في تلك اللحظة كان قد لمحني ولاحظ وجودي في الحفلة فشب وهتف يناشدني من فوق الرءوس : ما تكتبولنا شوية علي الحكاية السوداء بتاعة اللحمة دي يا أستاذ فلان.. حاضر.. وبالهنا والشفا إن شاء الله..