لأسباب أغلبها يتعلق بضيق المساحة، وأقلها يعود لاعتبارات الأخلاق الحميدة وحسن التربية التي يحرص العبد لله علي التحلي بها أمام القراء، لا أستطيع أن أنقل كل تفاصيل الحوارات والمباحثات التي دارت بيني وبين الأستاذ سيد جارنا في مناسبات وأماكن عدة في شارعنا وتحت عمارتنا، والتي تركزت أساسًا علي قانون الضريبة العقارية الجديد والمثير للجدل، لكني بادئ ذي بدء مضطر للاعتراف بأن جاري المزمن فاجأني في المراحل الأولي من هذه المحادثات بإظهار معدنه «الوطني الديمقراطي» الأصيل؛ فهو لم يكتف بالتعبير عن موقف إيجابي ومتحمس بشدة للضريبة المذكورة مشفوعًا بمرافعة بليغة استعار خلالها فصاحة وألمعية أحمد حديد عز ويوسف بطرس غالي جدا مجتمعين بينما هو يردد علي مسامعي قائمة الحجج والمبررات التافهة التي روجتها الحكومة لتسويغها وتبليعها للناس بالعافية، بل أكثر من ذلك كان سيد جاري ولا فخر أول وآخر مواطن صالح وَقَرَ الإيمان بهذه الضريبة في قلبه وصدَّقه بالعمل الفوري، بدليل أنه لم يشك أبدًا من البهدلة والمسخرة التي عاناها مئات آلاف المواطنين وهم يصارعون بعضهم البعض أمام منافذ توزيع الإقرارات الضريبية العقارية، وكان السبب في ذلك أن سيد سجل اسمه بحروف من نور في التاريخ العقاري الضريبي باعتباره المواطن الأول الذي سارع في الدقيقة الأولي من المهلة التي حددتها الحكومة بالذهاب إلي أقرب مأمورية ضرائب، حيث فاز بورقة الإقرار وأجاب عن أسئلتها بعناية، مفصحًا بكل الصدق والأمانة عن بيانات شقته اليتيمة في عمارتنا، ثم في اليوم التالي مباشرة بَكرَ بكور الطير وسلم الإقرار للمأمورية. ومن المرات النادرة التي ضحك لي فيها الحظ مع أني كنت أظنه بيضحك عَليَّ، تلك التي تزامن خروجي من العمارة مع عودة سيد بعد أن أودع إخطاره لدي السلطات المختصة، يومها استوقفني عنوة كعادته القديمة (أشرت من قبل إلي سحابة الصيف التي مرت بعلاقتنا) وبسرعة دخل في الموضوع بدون أي مقدمات ولا الأسئلة التقليدية عن الصحة والأولاد وخلافه، وإنما فورًا بشرني وهو يكاد يطير من علي الأرض فرحًا بخبر وجود إقراره الضريبي العقاري في هذه اللحظة تحت نظر وبين أيادي السادة المسئولين، فلما قلت له: «مبروك» رد بود صادق قائلا: الله يبارك فيك يا أستاذ فلان.. عقبالك أنت وكل حبايبك يارب. ولعل الأستاذ سيد جارنا يفاجأ وهو يقرأ هذه السطور بأنني بقيت طوال الوقت غير مقتنع أبدًا بأن حماسه وفرحه الزائد عن الحد بالضريبة العقارية الجديدة يعود إلي تلك الحيثيات «الميري» التي رصها وعددها أمامي في غير مناسبة، وربما يغفر لي جاري العزيز اعترافي العلني الآن بأن الحوار الذي دار بيننا في ذاك اليوم التاريخي عندما سلم إقراره، كان محاولة مني لاستدراجه حتي يبوح بالسبب الحقيقي الذي يقف خلف هذا الحماس والفرح، والحال أن الخطة التي وضعتها للإيقاع به نجحت فعلاً وتمكنت من التقاط الباعث غير الوطني وغير الديمقراطي لاهتمامه المبالغ فيه بأن يكون واحدًا من ممولي الضريبة العقارية المعترف بهم رسميًا.. وقد بدأت تنفيذ الخطة بأن قلت له: بس الحمد لله يا أستاذ سيد.. بيتهيألي أن شقتك وشقتي ستكونان تحت مستوي القيمة السوقية التي تبدأ منها الضريبة العقارية. ليه إن شاء الله.. شقة 3 وصالة و2عفشة ميه ومطبخ بقيشاني لغاية السقف.. إزاي تكون تحت المستوي؟.. هوه لعب عيال ولا إيه؟! اسمح لي أقولك يا أستاذ سيد إن موقفك من الضريبة دي غريب جدًا وبيدهشني.. المفروض إنك تنبسط إنك ح تبقي معفي منها.. مش العكس؟! لأ أنا بقي العكس يا سيدي.. يعني بعد الشقا والعمر الطويل ده كله سيادتك عايز تقولي إن الحكومة ح تفضل تعاملنا كأننا لسه برجوازية صغيرة!! صعقت لما سمعت هذا المصطلح يخرج من فم جاري سيد فلم أتمالك نفسي وسألته مذعورًا: برجوازية صغيرة؟!.. مالك أنت يا أستاذ سيد بهذه المصطلحات المعقدة الفخمة؟! وما علاقتها أصلاً بالموضوع؟! متشكرين قوي يا أستاذ فلان.. تقصد أن أنا حمار؟! أعوذ بالله.. العفو يا سيد «بيه»، لكني كنت أظن أنك بعيد عن الاهتمام بمثل هذه التعبيرات والمصطلحات النظرية الكبيرة. لا يا سيدي مش بعيد ولا حاجة.. أنا باسمعها وعارفها من أيام ما كنت في الجامعة. وأنت كمان كنت في الجامعة؟! أ.. أقصد سيادتك اتخرجت إمتي؟.. ثم إن حضرتك لم تجاوب عن سؤالي عن العلاقة بين البرجوازية والضريبة العقارية؟! عيب يا أستاذ فلان تسأل السؤال ده.. ده أنت راجل كاتب ومثقف.. كيف لا تعرف أن هناك علاقة بين البرجوازية والضريبة العقارية؟! سأكون سعيدًا وممتنًا جدًا يا أستاذ سيد لو شرحت لي.. الموضوع واضح زي الشمس.. المواطن مننا لما يكون من المشمولين بالضريبة العقارية، هذا معناه إقرار رسمي من الحكومة ومدعم بالمستندات، أن هذا المواطن مبسوط وبرجوازي كبير، وبناء علي ذلك فالحكومة ساعتها تبقي ملزمة تعامله علي هذا الأساس.. يعني ما ينضربش علي قفاه في قسم بوليس، وما يتبهدلش في أي حتة يروحها، وهكذا.. يعني باختصار يبقي مواطن برجوازي محترم. لكن يا أستاذ سيد مين اللي قال لسيادتك إنك برجوازي أصلا؟! مين قاللي؟!.. أنت غريب جدًا يا أستاذ.. يعني مش باين عليَّ.. يا راجل ده أنا وأنا لسه عيل في الجامعة كان زمايلنا اليساريين بيعايروني بأني «برجوازي صغير» لأني كنت بحب أمشي جنب الحيط وماليش دعوة بحاجة.. ومن أيامها وأنا باكافح عشان ربنا ينفخ في صورتي وأبقي برجوازي كبير. وأنت شايف إنك دلوقتي وصلت البرجوازية الكبيرة بالسلامة؟! طبعا..مش عندي شقة 3 وصالة و2 عفشة ميه؟! عندك حق. هكذا انتهي الحوار مع سيد جاري يومها، لكنه أمس فقط عاد والتقاني أمام الأسانسير وبدا لي مهمومًا حزينًا مكسورًا لدرجة أنني كنت علي وشك أقول له «البقية في حياتك»، بيد أنني آثرت التريث، وسألته: خير يا أستاذ سيد.. أراك حزينًا مكسورًا.. ماذا جري؟.. طمني عليك يارجل؟! ألم تسمع تصريحات الرئيس بشأن الضريبة العقارية؟ سمعت.. ما المشكلة؟ شكلهم كده ح يراجعوها ويغيروا القانون.. ويمكن شقتي وشقتك تخرج من الضريبة ويضيع الأمل خالص في الحصول علي وصل سداد الضريبة العقارية. والوصل ده مهم جدا لحضرتك؟! أيوه طبعا.. ده الدليل الوحيد اللي ح يثبت إني بقيت برجوازي كبير والحمد لله.