كنت عاكفة على ترجمة كتاب اجتماعي حول أسرار الزواج السعيد. وكان الكتاب، الذي حقق أفضل مبيعات على مستوى العالم، يضم بين جنباته عشر قصص زواج حقيقية من الواقع ويستعرض ما قد مر بها من مشاكل وسبل التعامل معها. استوقفتني إحدى القصص التي روت صاحبتها، كما هو الحال مع بداية كل قصة في الكتاب، كيف التقت بشريك حياتها وظروف ارتباطهما، توقف القلم عن الترجمة وابتسمت رغما عني ابتسامة باهتة على حالنا حين قالت الراوية " بدأت جذوة الحب بيننا حين التقت عيني بعين جون للمرة الأولى وهو ينظف لي مكتبي" نعم كانت تلك المرة الأولى التي التقت فيها بمن أصبح فيم بعد زوجها، كانت الراوية تعمل مديرة بإحدى الشركات وكان جون يدرس القانون ويعمل في هذا النوع من الأعمال لدوام جزئي للمساعدة على نفقاته.
سألت نفسي كم من الوقت نحتاج حتى نتعامل مع الأمور بهذه البساطة والأريحية وهل نحن مدركين حقا لحجم التعقيدات التي نثقل بها حياتنا خاصة في أمور مثل الزواج - حدث ولا حرج. وكم نحتاج من سنوات ضوئية حتى تتغير عقلياتنا ونصل إلى هذه الدرجة من الوعي والتفتح؟ ما نحتاج من الوقت أمر لا يعلمه إلا الله، أما السبيل إلى ذلك فهو نهضة شاملة في التعليم والثقافة والفكر. التعليم، ثم التعليم، ثم التعليم.....لم أكن أعلم في تلك اللحظة التي كنت أعكف فيها على ترجمة كتابي أن هناك قريب لي من الدرجة الثالثة يقطن في حي المعادي قد قرر ألا يلحق بناته الثلاثة بالمدارس. نعم لم تلتحق أي من بناته بالتعليم فهناك أستاذه تزورهم في المنزل تقوم بتحفيظهن القرآن وتعلمهن القراءة والكتابة والحساب فقط لاغير. لا يخرجن من بيوتهن لأي سبب ولا يختلطن بأحد أو المجتمع حتى يتم تسليمهن كل إلى زوجها في أقرب وقت ممكن ربما في السادسة عشر أو السابعة عشر من عمرهن كما أقر الوالد. أرجوكم لا تتهموني بالخبل أو اختلاق القصص حاصة حين تعلمون أن هذا القريب حاصل على الليسانس ويعمل بالماذونية وزوجته حاصلة على درجة الدكتوراه وهي طبيبة بشرية لا تمارس عملها بالطبع.
في أيام غير تلك التي نمر بها ربما كانت تملكتني الدهشة لدى معرفة ذلك ، خاصة حين يصدر تصرف مثل ذلك عن أبوين على درجة عالية من التعليم، أما الآن فلم يعد هناك ما يدهشني "حتى شكولاتة فريسكا" نفسها، وأتوقع أن أجد بين من يقرأون سطوري من يقول في نفسه "وماله ما بيتهدوا في البيت هي البنت ولا الست ليها إلا حبسة البيت" نعم فهناك من يعيشون معنا في القرن الحادي والعشرين ويفكرون على هذا النحو، تماما مثل المرشح الرئاسي المستبعد الذي عرض أن العزل بين الجنسين ولاد وبنات في المدارس والعزل بين الرجال والنساء في العمل كجزء من برنامجه الانتخابي درءا للفتنة والوقوع في الخطيئة.
لم يدهشني ذلك الأسلوب من التفكير لأنه انعكاس طبيعي لمجتمعات عربية يعاني الكثيرون فيها من الهوس الجنسي فلا يمكنهم النظر إلى المرأة والتعامل معها باعتبارها كيان وعقل وفكر بعيدا عن أي اعتبارات حسية. ولم يدهشني كذلك الآلية التي يمكن أن يتمكن من خلالها تفعيل ذلك النوع من العزل أو التفرقة في عصر يمكن لأي شخص ان يتواصل مع أي شخص بضغطة زر. وإذا افترضنا وأنه تمكن من تحقيق ذلك كيف لا يدرك أن مثل هذا النوع من الفرض والكبت في عالم السماوات المفتوحة قد يؤدي حتما إلى الانفجار، هل هو مغيب عما يحدث في بعض المجتمعات التي تظهر تشدد خارجي من انحرافات وشذوذ؟ ولم أندهش عندما تناقشت في هذه النقطة تحديدا مع احد ابناء هذا المرشح وقال لي نصا "اللي ليا عند أي حد مظهره وشكله الخارجي طالما اللي بيعمله بعيد عن الناس ومش قدام حد ماليش حاجة عنده" إنها أزمتنا الأبدية فخ المظهر ولكن هذه المرة ليست المشكلة انخداعنا فيه ولكن ترويجنا له. متى ندرك أننا لسنا في حاجة إلى مجتمع "متشدد" ظاهريا ولكننا في حاجة إلى تربية مجتمع "متشدد" أخلاقيا؟
والمدهش، والذي لم يدهشني رغم ذلك، أن بمقدور أي شخص من خلال نظرة سريعة على حال المرأة في عهد الرسول الكريم وبعده، أن يدرك أن الرسول لم يحرم الاختلاط وإنما حرم الخلوة وشتان بين هذا وذاك، فالمرأة كانت تعمل بالصناعة والتجارة والزراعة، وكانت تشارك في الحروب فيسقين الماء ويصنعن الطعام ويداوين الجرحى، وكن يسمعن الخطب مع شقاقئهن الرجال ويحضرن الدروس معهم، بل وكن يغنين ويضربن بالدف أمام النبي، إن الحديث الذي يذكر الغناء و الضرب بالدف أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - تكرر أكثر من اثنتي عشرة مرة عند البخاري و مسلم و أكثر من 50 مرة في الكتب التسعة، و ذكر ابن حجر العسقلاني المغنية في كتابه الإصابة و ترجم لها ب (حمامة المغنية). إن الحديث عن دور المرأة في عهد الرسول والصحابة ومشاركتهن الفاعلة في المجتمع لا يتسع له مجرد مقال، ولكن إذا كان ذلك حال المرأة في المجتمع المسلم منذ 1434 سنة فكيف يجب أن يكون حالها في القرن الحادي والعشرين!!!
حاولت تقمص شخصية ذلك الأب الذي قرر أن يكون ذلك حال بناته...فأنا أعلم تمام العلم أنه يفعل ذلك ويعزل بناته عن الدنيا بدافع الحب، ولكن هل يتناسب ذلك التصرف مع العصر الذي نعيشه؟ كيف سيقدم بناته للمجتمع بعد سنوات تمر سريعا بوصفهن أمهات وسيدات قادرات على مواجهة المجتمع. كيف يمكنني كامرأة مواجهة المجتمع والتعامل معه إذا عشت حياتي في معزل عنه وكيف أمارس أموموتي وأنقل خبرتي إلى أبنائي إذا كنت قد حرمت من فرصة التعلم بالتجربة؟ فإذا كنا ونحن على حالنا الآن في حاجة إلى دفعة كبيرة من التعليم والتثقيف والانفتاح على العالم لمواكبة تغيراته السريعة فكيف هو الحال مع أبناءنا ؟ هل الحل الأمثل أن نعزلهم أم أن نزيد انفتاحهم مع تربية الضمير فيهم والتشديد على التقاليد والأخلاق؟ وكيف تقبل الأم التي التحقت بالجامعة حتى حصلت على درجة الدكتوراه أن يحدث ذلك مع بناتها؟ أسئلة لم أحصل لها على إجابات ولكني رغم ذلك لم أندهش!