شريف عبد الهادي - عمرو أبو بكر رمضان أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتقٌ من النار.. هكذا تعلمنا منذ الصغر.. ولكننا حولناه ل"مرق" و"حلق" و"خرق"..! من هذا المكان نحاول جاهدين أن نعيد رمضاننا إلى أصله وأن نملأ جوفنا بالذكر بدلا من الطعام وقلوبنا بالطاعة بدلا من الشهوات ونفوسنا بالرضا بدلا من البطر. زي ما المصريين دونا عن غيرهم بيبدأوا اتفاقات الجواز بالكلام عن الطلاق بشوية أسئلة من نوعية: هتأمّن مستقبل بنتنا إزاي؟ وهتكتب إيه في القايمة؟ بننفرد أيضا إننا بنبدأ استعدادتنا للعيد والفرحة بالزعيق والخناق، ومافيش مانع الطلاق لو لزم الأمر!
علشان كده قبل ما ترتفع تكبيرات صلاة العيد في المساجد، بترتفع قبل منها بمنتصف رمضان (اللي أوسطه مغفرة) أصوات تانية في البيوت من كل أفراد الأسرة، لإظهار مدى الاحترام والودّ والتفاهم المتبادل بينهم وبين بعض بمجرد ما تتفتح سيرة "هنجيب الكحك جاهز ولا هنعمله؟".
وعلشان إحنا شعب قريّب أوي من بعضه، مافيش مانع نعمل المناقشات "المتحضّرة" المتعلّقة بكحك العيد "شير" لباقي الجيران من سكان العمارة والعمارات المجاورة، واللي همّ كمان بدورهم بيتنافسوا معانا على جايزة "البيت السعيد" اللي بتقام كل سنة في نفس الميعاد، واللي مِن أهم شروطها إن الأب يصرخ ويعلن مرتبه وميزانية البيت "الخربانة" على الملأ لحد ما باقي سكان المناطق الأخرى يبقوا عارفين هو بيقبض كام، والأم تظهر حِكمتها وقدرتها الفظيعة على الإقناع: "هنعمل كحك يعني هنعمل كحك.. دي عادة وربنا ما يقطع لنا عادة.. وبعدين إحنا هنعمله في البيت بدل ما نشتريه من بره، وهنوفّر كتير"، وهنا بالطبع يتجلّى دور البنت اللي بقت عروسة وعلى وش جواز واستعدادها التام في مساعدة مامتها: "كحك إيه اللي نعمله في البيت.. هي ناقصة هدّة حيل.. لو مصمّمة اعمليه لوحدك"، ده غير الإفيه المتكرّر من الطفل المفعوص وهو بينصح باباه نفس النصيحة كل سنة: "يا عم طلق الست دي وريّح دماغك.. بس بعد ما تعمل لنا الكحك".
وبما إن كل حاجة بتتطوّر وتتغيّر، مابقاش فيه دلوقتي الجيران اللي بتعمل كحك وتبعت طبق منه على سبيل المجاملة؛ فيقوم اللي خد الطبق ما يبعتهوش فاضي ويصمّم يرجعه مليان، ويفضل الطبق رايح جاي على مدار رمضان، وبقت الغالبية مننا بتخلّص الكحك كله لحد آخر رمق، أو تسيب شوية للنمل والحشرات على سبيل الرفق بمخلوقات الله.
وعلى فكرة.. حسب دراسة نشرتها مجلة الأهرام العربي، إحنا بنستهلك كحك عيد سنويا بمعدّل حوالي 100 ألف طن، وتمنهم حوالي 800 مليون جنيه.
تسألني وتقول لي: إيه علاقة هذا الكمّ المهول من الكحك اللي بنبدأ نحضر له من نص رمضان، بالمقولة اللي بتقول "رمضان أوسطه مغفرة"؟ أجاوبك وأقول لك.. مع كل قطعة كحك الناس بتسمّي الله قبل ما تاكل، واللي يسمّي بياخد ثواب، وكل ما تاكل كحك أكتر نِسبتك في المغفرة تكتر، وهو ده الفهم الحديث بمغفرة رمضان!
أصدقائنا الأعزّاء.. إذا كان الجنان السابق ذكره يشبه رمضانكم في كثير من أحداثه.. فاحذروا فلم نرزق رمضان لنفعل هذا.. بل لهذا
إحنا عارفين إن قرّاءنا ممكن يكون عندهم رد على الكلام اللي فات كله، ومش هنقول إن الكح كده بدعة وليس من أعمال العبادة في رمضان؛ لأن هناك اختلاف بين العلماء بخصوص الموضوع ده، واختلاف العلماء رحمة، وإن العلماء اللي أجازوه على سبيل أعمال الفرحة، والفرح والابتهاج من سُنن الأعياد.
لكن كلامنا هيكون عن السعادة.. إحنا بننتظر رمضان من السنة للسنة علشان هذا الشهر الكريم بنشعر فيه بالسعادة؛ فطاعة ربنا في الصيام والصلاة والقرآن بيكون ليها طعم ومذاق مختلف، بيخلّينا نشعر بالسعادة في هذا الشهر، علشان كده بنشتاق لرمضان وبنزعل لمّا أيامه تخلص.
كمان لمّة الأسرة في السحور والإفطار مهما كان الأكل بسيط، بتخلّينا نشعر بالسعادة؛ لأن ممكن أعباء الحياة في باقي أيام السنة بتخلّينا مانتلمّش مع بعض كتير، إلا في شهر رمضان، مواعيدنا بتتغيّر، وحياتنا بتتأقلم مع مواعيد السحور والفطار وكل ده سعادة..
صلاة التراويح.. والحرص على الصلاة وراء إمام يسمّعنا القرآن بصوت عذب، يجعلنا نشعر بالسعادة وننتظر رمضان بعد رمضان.
والأهم من ده كله، الذنوب اللي بنعملها، وكلنا أصحاب ذنوب؛ فكل ابن آدم خطّاء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولمّا بييجي رمضان بنمتنع عن هذه الذنوب لبركة الشهر، وكمان بنتوب عن ذنوبنا في هذا الشهر الكريم -مع إن التوبة إلى الله متاحة في كل أيام السنة- لكن الله عز وجل خصّ هذا الشهر بمغفرة تامة للذنوب، وأكيد كلنا سمعنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن صام رمضان إيمانا واحتسابا غُفِر له ما تقدّم من ذنبه"؛ فمغفرة ربنا لذنوبنا بتخلّينا نشعر بالسعادة.
وهنا السؤال اللي بيطرح نفسه: لمّا كل دي سعادة إحنا بنحبّها ونستنى رمضان علشان نشعر بيها، ليه بنخترع حاجات ننكّد بيها على نفسنا؟؟ ليه نخلّي عمل الكحك أو شراؤه يمحي كل بهجة رمضان عندنا من صيام ولمّة أسرة وصلاة تراويح وصلة رحم.. ليه؟؟
ليه ننسى اللي مستنيين رمضان علشانه، ونضيّع فرحتنا بحاجات مش هنموت لو ماعملنهاش؟ ومش هيضيع علينا ثواب الشهر الكريم لو ما جبنهاش؟؟ بل ممكن نضيع كل ثواب الشهر بسبب خناقات في البيوت بتخلّينا نقول ونتلفّظ بكلام لا يصحّ أن يكون في رمضان؟؟
السعادة تكون في بساطة الحياة لا تعقيدها؟؟
كانت ربة منزل تحكي أن زوجها كان مرتّبه يكفي بالكاد مصاريف التعليم والأكل والشرب؛ فكانت تقوم في رمضان بعمل كيلو واحد من كحك العيد من الدقيق الرخيص المخصّص للخبز، وكان يأتي إلى هذه الأسرة الفقيرة ضمن التموين الاجتماعي الشهري، وللعلم أن هذا الدقيق لا يصلح أبدا لعمل الكحك؛ لأن الكحك يصنع من الدقيق الفاخر، لكن هذه السيدة المصرية الأصيلة تُقسم بأن الكحك كان ينجح معها ببركة شهر رمضان، وكانت تُدخل السرور على أولادها بهذا القدر القليل، وفي نفس الوقت كانت ترفع الثقل عن زوجها، وكان يعيشون في سعادة طوال شهر رمضان.
السعادة إذن من صنيعة يدك، وشهر رمضان أوسطه مغفرة، والمغفرة سعادة، وليس أوسطه نكد كما يحرص البعض أن يعيش فيه..
فكّر بعقلك وقرّر كيف تكون حياتك.. تقبّل الله صيامكم،،،