كان مولد النبي الكريم وبعثته من قبل ملهماً لأتباعه من المسلمين في إبداع أنماط من الفن وفاتحاً لهم مجالات من العلوم لم تكن مطروقة من قبل. وكان من بين ما ظهر في مجال الفنون فن المدائح النبوية الذي اختص بمديح الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد خرج أول ما خرج من عباءة النظم الشعري، وكانت إرهاصاته في نظميات حسان بن ثابت وأبيّ بن كعب في مدح النبي الكريم. لكن هذا الفن لم يصل لتمام التقعيد إلا في العصر الأندلسي موازياً لفن الموشحات؛ فأصبح له نظام خاص في الكتابة واستخدام ضروب الوزن والتعبيرات بالشكل والصور التي تميزه عن القصائد عامة والنظام التقليدي.
ولم يكتف المترنمون بذكر الحبيب بهذه الكلمات المنظومة؛ إلا بعد أن وضعوها في قوالب موسيقية ونظام إيقاعي وفرق إنشادية تقوم به؛ فكان التطور النهائي في العصر الحديث في مدرسة المشرق وحمل رايتها الشام ومن بعدها اليمن ومدرسة المغرب العربي. ولهذه المدائح أشكال تختلف حسب القطر وحسب المنشد، وقد يخلط المرء في البداية بينها وبين الموشح والابتهال: فأما الابتهال فهو أبيات يؤديها المنشد مفرداً على شكل مناجاة، ويكون أداؤه حراً، لا يتقيد بإيقاع أو بلحن معين؛ لكنه يرتجل حسب الدفقة الشعورية التي يتعرض لها أثناء إلقائه، وهو نظام متبع ومطروق حتى العصر الحالي، وتشتهر به مصر على وجه الخصوص. ومن أهم أعلامه الأسطوري سيد النقشبندي والشيخ نصر الدين طوبار، والعمالقة محمد عمران وسعيد حافظ ومحمد الهلباوي، والشيخ عبد العزيز بخاري، وغيرهم الكثير من لامعي الإذاعة المصرية. وهو متبع في الطقوس الشعائرية قبل صلاة الجمعة وأذان الفجر، وبعض المناسبات الدينية. من خلف النيل استمع إلى موشح الشيخ النقشبندي بمصر
إضغط لمشاهدة الفيديو: أما الموشح فهي قصيدة ملحنة ومتفق على أدائها بشكل معين، وفي الغالب -وحتى فترة قريبة- كان الشيخ (مؤديها) هو الذي يقوم بتلحين القصيدة بنفسه ثم أدائها منفرداً أو مع بطانته؛ أمثال الشيخ علي محمود والشيخ طه الفشني والشيخ ممدوح عبد الجليل والشيخ زكريا أحمد؛ لكن مؤخراً أصبح عدد من الملحنين يساهم في هذا الفن بتلحين القصيدة ليؤديها الشيخ بعد ذلك بنفسه أو مع البطانة، وأصبح يستعان فيها بالآلات الموسيقية المعاصرة؛ ومن ذلك ما قام به الموسيقار بليغ حمدي من تلحين موشح "مولاي" الذي أداه الشيخ سيد النقشبندي.
استمع إلى ابتهال النقشبندي إضغط لمشاهدة الفيديو:
استمع إلى الشيخ طه الفشني وبطانته أما المدائح النبوية كما هي الآن فهي في عدد من الأقطار العربية -مثل سورية والمغرب واليمن- تدخل ضمن نظام الإنشاد الذي تؤديه الفرقة كاملة، ولها كلمات تكتب خصيصاً لها في وصف النبي ومدحه والثناء عليه، ولحن خاص تسير الفرقة على نظامه. والفرق المؤدية لهذا الفن ومنشدوها الذين تلمع أسماؤهم في الوطن العربي أكثر من تحصى؛ منهم على سبيل المثال: المنشد عماد رامي، وبلال الأغبري، وعدنان الحلاق.
من الهلال الخصيب استمع لبلال الأغبري من اليمن إضغط لمشاهدة الفيديو: ومن سوريا استمع لفرقة المعتصم بالله بالعسلي وقد يدخل المدح النبوي في كل هذه الأنواع لكن يغلب عليه نظام الإنشاد بالفرقة منشداً وكورالاً، أو المنشد وحده لكنه يستعين بمشاركة الجمهور معه لترديد المذهب الذي يفصل بين فقرات قصيدته. وكلها أشكال تلمع في مناسبة المولد النبوي الكريم.
وسيظل المولد النبوي ملهماً لكل عاشق يصدح بمدح النبي وبوصف شمائله النبوية ومعجزات نبوته.