كنت قد اشتريت دولارات أمريكية من مصر لتبديلها بالعملة المحلية هنا، التعامل بكروت الائتمان في هذا البلد نادر، ربما في الفنادق فقط. العملة الإثيوبية تدعى بِرّ Birr. الجنيه المصري كان يساوي 3 بِرّ تقريبا (قبل أن ينهار مؤخرا أمام الدولار فيرتفع البِرّ قليلا بالضرورة). عندما أشتري أي شيء أقسم في ذهني على 3 لأفهم قيمته، وفي معظم الأحيان كنت أكتشف مدى ضعفي في الحساب فأعتمد على الآلة الحاسبة التي في المحمول! اكتشفت كم تبدو عملاتنا الورقية في مصر جميلة ومبهجة عندما رأيت البِرّ! عملاتنا تلتزم بقاعدة وضع مسجد أثري على وجه العملة، ثم منظر فرعوني على ظهرها، وهي متعددة الألوان وذات تصميم جيد، أما العملات الإثيوبية فيغلب على كل فئة منها درجات لون واحد، ولا تخرج صورها عن مناظر للحرف التقليدية أو بعض المناظر الطبيعية، ولا يمكن أن نعتبرها معبّرة عن التاريخ العريق للبلاد. للأسف العملات الورقية في إثيوبيا في حالة سيئة للغاية ومعظمها غاية في القذارة، رزم العملات يكاد يشرّ منها الطين، ومن النادر أن ترى ورقة سليمة. أيضا معظم العملات ممزق وبعضها به أجزاء كبيرة مفقودة قد تصل إلى ربع الورقة النقدية! لكن الناس مع ذلك يتقبلون هذه العملات كأمر مسلم به ولا يرفضونها في المعاملات المالية مهما كان حجم الجزء المفقود من الورقة، وليس مثل مصر التي كثيرا ما يرفض فيها البائع أن يأخذ الورقة النقدية إذا وجدها قديمة قليلا. ذهبت إلى السوبر ماركت لألقي نظرة، ولأشتري منتجات محلية أعود بها إلى مصر. أسعار السوبر ماركت مثل مصر تقريبا وربما أغلى قليلا. للأسف تكاد لا توجد أي منتجات محلية في السوبر ماركت. كلها منتجات مستوردة من دول مختلفة وماركات عالمية وعربية. رأيت علب لبن إنجوي المصري على الأرفف. تبدو الصناعة هنا في خبر كان حتى في مجال الصناعات الغذائية البسيطة. المنتج المحلي الوحيد الذي وجدته كان البن. البن رخيص هنا مقارنة بمصر ولا عجب فهذه هي بلد البن. لكن حتى البن الذي عدت به كان مطحونا بشكل رديء جدا واضطررت إلى إعادة طحنه عدة مرات ليصبح صالحا للاستعمال. بالنسبة للطعام فأكثر ما أعجبني هو الخبز! الخبز رائع ويمكن أن تأكله حاف من فرط جماله! الرغيف عبارة عن كتلة كبيرة بيضاوية تأخذها وتقطعها بالسكين قدر حاجتك أو تقضمها كيفما تشاء. هناك أيضا نوع من الخبز المحلي التقليدي على شكل شرائح طويلة إسفنجية يتم طيها بشكل حلزوني، وطعمه حامض ولم أستطع أن أستسيغه. يسمونه إنجيرا Injera ويمكن اعتباره خبز الفقراء لأنه رخيص جدا، وهو يصنع من دقيق حبوب نبات يسمى التف Teff، أما التف فهو نبات عشبي يشبه الحشيش! وهو غني بالحديد والألياف والبروتين والكالسيوم. ولكي يصنع الإنجيرا يخلط دقيق التف مع الماء وبادئة العجين ويترك ليختمر لعدة أيام، وهذا هو سر الطعم الحامض. بعدها يخبز على أطباق كبيرة (تصنع عادة من الطمي)، ويكون سطح الرغيف الملامس للطبق أملس بينما يكون السطح العلوي للخبز مساميا أسفنجيا. ولأن الخبز مسامي ومجوّف من الداخل فهو مناسب للطعام الأثيوبي الذي يحتوي على كثير من المرق والصلصات، حيث يلتقط الخبز هذه الصلصات في مسامه أثناء (التغميس)! مع الإفطار هناك البابايا والكثير من البابايا، بابايا على شكل شرائح وبابايا على شكل عصير، وهي فاكهة تشبه المانجو لكن ليس لها طعم المانجو بل هي تقريبا بلا طعم! الأفاكادو من الفواكه المشهورة هنا لكني لم أستطع أن أحبه. البيض يقلى وبداخله الكثير من الفلفل والطماطم المقطعين إلى شرائح صغيرة جدا. طبق الفول يمتلئ بقطع الطماطم والبصل حتى يكاد الفول أن يكون فيه مجرد ضيف! اللحم عبارة عن قطع تقطع بالعظم وتغرق في بحور من الصلصلة الحارة. هناك أيضا شرائح الخيار والجزر التي يتم قليها في الزيت! أكلت أيضا أشياء كثيرة غريبة الطعم لا أعرف ما هي ولم أهتم أن أسأل! عامة الطعام هنا جيد والمطاعم رخيصة جدا. إثيوبيا بها ثروة حيوانية كبيرة، لذا فاللحوم بأرخص الأسعار. يمكنك أن تأكل طبقا كبيرا ومحترما من اللحوم المشوية مع السلاطات والأطباق الجانبية ثم أطباق الحلو ثم تشرب ما تشاء من قهوة ولن تزيد الفاتورة بحال عن مائتي بِرّ، أي حوالي 65 جنيها، الأمر الذي يكلف في القاهرة حوالي ثلاثة أضعاف هذا المبلغ. ورغم الانخفاض النسبي في أسعار الطعام إلا أنها تعتبر غالية بالنسبة لأعداد كبيرة من الناس، حيث يقع ما يقرب من نصف السكان تحت خط الفقر، وتحتل إثيوبيا المركز الرابع عشر في قائمة 2012 لأفقر دول العالم. في وجود موارد كبيرة وأراض خصبة وثروة بشرية من الأيدي العاملة الرخيصة كان يجب أن يكون البلد أغنى من هذا بكثير لو توافرت أسس الحكم والإدارة السليمة، وأعتقد أن هذه هي نفس مشكلتنا في مصر.
يُتبع الحلقات السابقة: د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (1) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (2) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (3) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (4) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (5) أديس أبابا 6 * دنيا الأدب اضغط على الصورة لمشاهدة الجاليري: