أول ملاحظة ستلاحظها في إثيوبيا هي أن البلد أخضر تماما.. أخضر بشكل مبهج.. أخضر بشكل مثير للحسد! التربة هنا حمراء شديدة الخصوبة والأمطار وفيرة والأشجار الباسقة تنمو في كل مكان. لديهم أنواع عديدة من الأشجار رائعة الجمال لم أرها من قبل. أشجار تتفرع إلى أعلى بطريقة الصبار، وأشجار تتدلى منها ما يشبه خيوط محملة بورد أحمر، وأخرى ضخمة ترتفع بشكل هائل، ولا أعرف لأيها اسما! هناك حركة بناء نشطة في المدينة، مبانٍ حديثة من النوع الذي لا يعجبني، مبانٍ واجهاتها مغطاة بالألوميتال وتم تلوينها –على عادة الأفارقة– بألوان فاقعة كالأحمر والأصفر والبرتقالي! النوع الآخر من المباني الذي يمكن أن تراه هو المباني التي تنتمي إلى طرز أوروبية مختلفة والتي تتواجد في الأجزاء الأقدم من المدينة، معظمها على الطراز الكولونياني. الملاحظة الثانية التي انتبهت لها من اليوم الأول هي الانتشار الهائل لصور رجل أصلع في لافتات وبوسترات بطول المدينة وعرضها، أينما ذهبت تطالعك صور هذا الرجل في كل الأوضاع والأزياء وبكل الأحجام. عرفت فيما بعد أنه زيناوي الذي سأعود إليه لاحقا. كان مطلوبا منا أن نذهب إلى وزارة الصحة الإثيوبية لاستخراج تصاريح عمل للأطباء الذين سيعملون في هذه البعثة الطبية، وكان ماجد قد أتى عدة مرات في الأيام الماضية لاستخراج التصاريح، لكن في كل مرة تكون هناك ورقة ناقصة أو ختم ناقص! بيروقراطية كالبيروقراطية المصرية تماما وربما أعتى! في مكتب وزارة الصحة كانت صور زيناوي تملأ كل مكان: حوائط المكتب والممرات والمداخل وكل الغرف تقريبا! ومرة أخرى كانت هناك مشكلة مع الموظف الإثيوبي؛ كان من المفروض أن يكمل إجراءات ما في الأوراق لكنه لم يفعل، وقال لنا بالحرف: You can pass tomorrow، أي فوت علينا بكرة، لكنه لم يضف إليها "يا سيد"، لهذا فإن "سيِّد" هو الفرق الوحيد بين البيروقراطية المصرية والإثيوبية! كنا في انتظار وصول أطباء وصيادلة من أمريكا وكندا للمشاركة في البعثة، وكان يجب أن تُستخرج التصاريح قبل أن يصلوا، لكنهم أتوا وعملوا ورحلوا ولم تكن التصاريح قد استخرجت بعد! لم ننجز شيئا في وزارة الصحة، فاتجهنا إلى ميدان مداهني آلام، أشهر ميادين أديس أبابا والقريب من المطار لشراء بعض الاحتياجات. مداهني آلام، تعني باللغة الأمهرية مُخلّص العالم، وقد أخذ الميدان اسمه من اسم كاتدرائية ضخمة تحتل مساحة هائلة، وتعتبر ثاني أكبر كنائس إفريقيا. وهي كاتدرائية حديثة انتهى بناؤها عام 2005. حركة البناء ما زالت مستمرة في كل مكان بالميدان، ويبدو أنه احتل مكانته هذه حديثا. تقع الكثير من الفنادق في الميدان وفي الشوارع المتفرعة منه، إضافة إلى أشهر مول تجاري في العاصمة ويسمى "إدنا مول"، هذا هو المكان المعادل لسيتي ستارز لدينا، لكن إذا وضعت إدنا مول بجوار سيتي ستارز فكأنك تضع سيارة 128 بجوار جاجوار! لديهم أيضا سلسلة مقاهٍ على غرار مقاهي ستار باكس تسمى كالديز Kaldi's، وهي مقاهٍ تقلد ستار باكس في كل شيء من التصميم وزي العاملين وحتى على مستوى اللوجو الأخضر المستدير. تقول الأسطورة الحبشية إن كالدي Kaldi هذا كان راعي غنم إثيوبي وهو الذي اكتشف القهوة، فقد لاحظ كالدي أن الماعز تصبح أكثر نشاطا عندما تأكل ثمرات نبتة معينة، وقد أخذ كالدي يمضغ ثمرات القهوة بنفسه، ثم أخذها إلى رجل دين بقرب أحد الأديرة، فنهره رجل الدين وأخبره ألا يعود إلى مضغ هذه الثمرات مرة أخرى وأخذها وألقى بها في النار، وعلى الفور تصاعدت رائحة طيبة هي رائحة القهوة. أخذ كالدي الثمار المحمصة وأذابها في الماء لتصبح هذه أول قهوة في التاريخ. فيما بعد عرفت أن هناك عدة سلاسل من المقاهي تستخدم نفس الاسم في مختلف بلدان العالم لكن دون أن تكون هناك علاقة بينها وبين بعض. عندما تجلس في كالديز أو أي مقهى آخر، تجد أن أشهر قهوة يتم تقديمها لديهم هي الماكياتو، وهي نوع من الإسبريسو يضاف إليه بعض اللبن. من الأشياء اللطيفة أن الكثير من المقاهي تقع في الدور الثالث أو الرابع من العمارات! حيث تكون هناك شرفة كبيرة تطل على الشارع ترصّ فيها الطاولات والكراسي ويتفرج فيها رواد المقهى على الشارع من أعلى بينما يحتسون القهوة! بعد أن انتهينا من المشاوير اكتشفت أنني لم آكل شيئا منذ أكثر من عشرين ساعة، وأن آخر وجبة أكلتها كانت الوجبة التي قدِّمت لنا في الطائرة بُعَيْدَ الإقلاع من القاهرة! وحينما وجدت فرصة للأكل أخيرا كنت جائعا لدرجة أنني فهمت شعور شارلي شابلن عندما سلق حذاءه!
يُتبع الحلقات السابقة: د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (1) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (2) أديس أبابا 3 * دنيا الأدب اضغط على الصورة لمشاهدة الجاليري: