منذ ما يقرب من عام، وكلما التقيت صديقا قديما، أو حديثا، أو حتى متابع لندوة، إلا وكان ذلك السؤال مطروحا.. إلى أين نمضى؟! إلى أين يتجه الوطن؟! والواقع أننى كنت أجيب السؤال دوما بعبارة، لا تعني شيئا محددا فى الواقع.. "خير إن شاء الله".. أستخدم ذلك الجواب الذى ليس فى الواقع جواباً؛ لأنني مثل كل من يسألني، لا أدري إلى أين نمضي.. فعقب الثورة، كنا كلنا نتصوَّر أن الغمة قد انزاحت. وأن الأمل قادم.. الأمل فى الحرية.. في الديمقراطية.. في الحياة الكريمة.. في بناء وطن قوي.. ولكن، ولخيبة أملنا، فلا شيء مما يحدث يمكن أن يشير، مجرد إشارة إلى هذا.. لقد كنا نشكو من أن النظام السابق لا يجيد الاستماع إلينا.. وفوجئنا بنظام، لا يستمع إلينا إطلاقا!! كنا نشكو من أن النظام السابق يقمع حريتنا.. فجاءنا نظام، لا يعرف حتى معنى الحرية.. كنا نبحث عن الديمقراطية، فى عهد النظام السابق.. ثم جاء نظام، لا يؤمن إلا بأمر واحد.. ديمقراطية الصناديق.. وياله من مصطلح قاصر.. ساذج.. خائب.. مصطلح يبدو صحيحا، ولكنه حق يراد به باطل.. فعندما قمنا بالثورة، لم يخرج الشعب كله معها.. العدد الذى خرج ينادي بالثورة، كان وفقاً لأفضل التقديرات، ما بين ثمانية عشرة إلى عشرين مليونا، في طول البلاد وعرضها.. ولو أننا أخذنا بمبدأ ديمقراطية الصناديق، فهذا العدد، على الرغم من ضخامته، لا يساوي حتى نصف عدد الناخبين حينذاك.. إذن، فوفقا لذلك المبدأ، الشعب لم يختر الثورة.. ولكن أحداً لم يذكر هذا حينذاك.. ولم يشر حتى إليه.. ولهذا نجحت الثورة.. وإشكالية ديمقراطية الصناديق هذه تكمن في الصناديق نفسها.. فعندما لا يزيد عدد من يدلون بأصواتهم، عن ثلاثين أو أربعين في المائة من الناخبين المسجلين رسمياً، فهذا لا يعني أن الشعب قد اختار فعليا.. ولا أن النتائج، أيا كانت، يمكن بأي حال من الأحوال، أن تعبر عن رأي الأغلبية.. ثم إن أسلوب التعامل مع الصناديق، منذ قيام الثورة، لا صلة له، من قريب أو بعيد، أو حتى من بعيد جدا، بأية لمحة من لمحات الديمقراطية!... إنه تعامل عنصري بحت.. استغلال شديد السوء، لبساطة وقلة حيلة هذا الشعب، وحالة الفقر المادي والفكري الذي يعيشه.. الصناديق يتم التعامل معها، من نفس المنطلق، الذي كانت تتعامل به دول أوروبا، في العصور الوسطى، وهي تلك الفترة التي ما زال التاريخ يطلق عليها اسم (عصور الظلام).. إما أن توافق فتدخل الجنة.. أو ترفض ومصيرك جهنم وبئس المصير.. وكأن من يقولون هذا يملكون مفاتيح الجنة والنار.. ويملكون حتى لأنفسهم، تحديد من يدخل هذا أو ذاك.. وأي تجبر هذا، على خالق الكون العظيم، المعز المذل، المنتقم الجبار، ذي الجلال والإكرام!! ثم إنك تندهش، من تغليب المصالح السياسية على الفتوى الدينية الصحيحة في هذا الشأن!! شيوخ موقرون، يصرخون في برامجهم التليفزيونية، بأن من يؤيد الدستور –بشكله الحالي– فهو آثم.. ثم تتبدل الرؤية السياسية، فتجد نفس الشيوخ الأجلاء، وهم يصرخون في نفس البرامج، بأن من يقول لا لنفس الدستور، بنفس شكله، فهو آثم!! وتندهش.. ثم تندهش.. ثم تندهش ألف مرة.. فالحكمة القديمة تقول: "من شكر وذم، كذب مرتين". وأولئك الشيوخ الأفاضل شكروا وذموا الشيء نفسه.. والشيء لم يتغيَّر أو يتبَّدل.. فتواهم فقط تغيَّرت وتبدَّلت!! البعض سيغضب حتما من العبارات السابقة، وسندفع مؤكّدا أن هذه أهم مميزات الفتوى الدينية.. إنها مرنة.. وتتواكب مع الحياة.. ولكننا هنا نتحدَّث عن شيء ثابت.. شيء إما أن يكون صحيحيا أو لا.. الشيء واحد لم يتبدل، فكيف يكون تارة حلالا، وتارة أخرى حراما؟! وقبل أن يشتعل غضب الغاضبين، دعني أطرح عليهم سؤالا.. ماذا لو أصيب ابنك، أو شقيقك، أو أحد والديك –لا قدر الله– بمرض عضال؟! مرض يحتاج إلى طبيب شديد البراعة؛ لشفائه منه.. وليس لديك سوى طبيبين فحسب.. أحدهما هو الأكثر براعة، والأكثر خبرة ومهارة، ونسبة شفائه لهذا النوع من المرض تتجاوز الخمسة وتسعين في المائة.. ولكنه طبيب ملحد.. والآخر على عكسه، شديد الإيمان والتقوى، ولكنه محدود الخبرة والمهارة والبراعة، ولم يحقق نجاحا يذكر، في علاج ذلك المرض.. فأيهما ستختار؟! لا تتسرع في الجواب، واحسبها أوَّلا.. واحسبها جيدا.. وواقعيا.. وتذكَّر أننا نتحدث عن عزيز لديك.. عزيز جدا.. بالنسبة لي، سأختار الأكثر براعة بلا تردد؛ لأن هذا هو المنطق السليم، ولن يمكنني المخاطرة بحياة عزيز لدي، لمجرد الانفعال والتعصب.. فماذا عنك؟!.. لو أنك صادق مع نفسك، فجوابك لن يختلف كثيرا عن جوابي.. لأنه هكذا ستقودك النفس البشرية.. وغريزة البقاء.. دعنا إذن نطبق هذا على نطاق أوسع.. على الوطن كله.. الوطن عزيز علينا جميعا.. وهو يعاني من مرض شديد الخطورة.. ولو أن الوطن عزيز عليك، كما هو عزيز علي، فعليك أن تختار له أفضل طبيب.. وليس أقرب طبيب.. عليك أن تختار له الطبيب القادر على معاودته.. ومداواته.. وشفائه بإذن الله.. هذا لأن الوطن أشبه بسفينة تقلنا جميعا.. سفينة لو واصلت رحلتها، حتى شاطئ الأمان، فسننجو جميعا.. ولو غرقت، فسنغرق جميعا.. سنغرق مهما كانت عقيدتنا، وأفكارنا وانتماءاتنا.. الوطن سيغرق.. ونحن سنغرق... جميعا ... واحسبوها أنتم... وما زال للحديث بقية.