يخطئ من يظن أن ما نعيشه الآن في مصر قبل وبعد الدستور، من حالة الاختلاف والاتهامات المتبادلة والتجريح -التي وصلت أحيانًا إلى السباب- هي حالة غريبة أو شاذة في عالم السياسة!! فقط، نحن الذين نمرّ بها أول مرة تقريبًا.. فالثورة سمحت بالتنافس الحقيقي بين الأفكار والمواقف، بعد أن كنا في حالة جمود سياسي أيام مبارك ونظامه المخلوع. فهذه الحالة من الشد والجذب، موجودة في أعتى الديمقراطيات، وأشد منها يحصل!! لكن بعد أن يهدأ الغبار تبدأ التحالفات تتشكل، ومن كانوا أعداء الأمس يصبحون حلفاء اليوم!! لكن الفرق الجوهري والمهم هو أن الدول الديمقراطية التي نرى فيها مثل ما نراه عندنا وزيادة، قد ترسّخت فيها قيم وسلوكيات تمنع من أن يدوم هذا التراشق السياسي كثيرًا، أو أن يتحول إلى أساليب غير سلمية تضر بالوطن كله. فهم مهما اختلفوا سرعان ما يتوحدون حول المصلحة العليا والقواسم المشتركة، ويجعلون الأمر في النهاية بيد الشعب ولصالح الشعب.. وهكذا تكون الاختلافات السياسة ضرورة، بل ومفيدة للجميع. والسؤال: هل ما نراه من انفصال بين "نعم" و"لا"، فيما يتصل بالدستور أو غيره من القضايا، هو انفصال نهائي، أم أمر يمكن تجاوزه؟ أي: هل هو طلاق بائن لا رجعة فيه، أم ما زلنا في الطلقة الأولى أو الثانية، بما ينفع معها التراجع، والصلح الذي هو خير؟! لا، ما زلنا في مرحلة الرجوع لا الانفصال التام؛ لكني لا أقصد بالرجوع أن نعود إلى الأيام ال18 بتوع ميدان التحرير أول الثورة، فهذه كانت لها ظروفها التي لن تعود، ومن غير المطلوب أن تعود. لأن مصر انتقلت من مرحلة الاتفاق على الرفض، وهو ما يوحدنا، إلى مرحلة وضوح البرامج والأفكار، وهو ما يعني بالضرورة: الاختلاف والتنوع.. المهم أن يكون اختلاف تنوع لا تضاد. فليس المطلوب أن تتفق كل الأحزاب على كل الأفكار والبرامج، بل لا بد أن يكون لكل حزب أفكاره وبرنامجه بما يميزه عن الآخرين.. المهم الاتفاق على القواعد التي تحكم وتنظم الصراع السياسي. يجب أن نعلم أن الدستور أسفر عن حقائق معينة ستتشكل قريبًا على الأرض، ويمكن الاتفاق معها أو الاختلاف بالقانون، وبالوسائل التي أصبحت من المعلوم في الديمقراطية بالضرورة، من الاعتصام والتظاهر السلمي وصولاً إلى توعية الناس وتشكيل رأي عام يحشد ويفرض رؤيته. لكن علينا أن نلاحظ أمرين مهمين: -الاحتكام إلى الصناديق واحترام رأي الأغلبية، يفرضان إتاحة الوقت أمام اختيار الجماهير، وإعطاء الفرصة لمن حازوا ثقة الجماهير ليطبقوا أفكارهم، لا أن يتم إشغالهم وملاحقتهم بالشائعات والاتهامات التي لا أساس لها؛ لأن هذا السلوك يرفض "عمليا" نتيجة الصندوق حتى وإن أعلن "نظريا" رضاه بها!!! -أن مرحلة الانتخابات تختلف تمامًا عما بعدها؛ فإذا كان من طبيعة الانتخابات التنافس- حتى غير المحمود أحيانًا!!- والوصول إلى أقصى نقطة من الضغط والشقاق؛ فإن ما بعدها يستوجب إعلاء مصلحة الوطن، والبحث عن القواسم المشتركة، والحوار الهادئ؛ فأجواء الانتخابات تبدو أجواء "استثنائية" تتكرر كل أربع أو خمس سنوات، وإلا ضاع الوطن وسط تراشقات السياسيين، والأخطر: كَفَرَ المواطن العادي -والذي يشكل غالبية الجمهور- بالسياسة والسياسيين جميعًا!!