خلينا نحسبها.. متى نبدأ؟ "الثورة مستمرة".. مصطلح طال ترديده وطال استخدامه وراق للعديدين ترديده و.. ولكن ما الذي يعنيه؟ هل استمرار الثورة يعني أن نظل ثائرين إلى الأبد؟ وهل تعني الثورة نفسها هذا؟ لكي نجيب عن السؤالين السابقين لا بد لنا أن نطرح أولا سؤالا أساسيا.. ما هي الثورة؟ كيف تبدأ؟ وإلى أين ينبغي أن تنتهي؟ وأي هدف تنشده؟ الثورة هي غضبة شعبية كاملة لشعب فاض به من كثرة القهر والظلم والاستعباد، ولم يعد يحتمل حاكميه والنظام القائم على أمره، ويئس من أن يحظى منه بما ينشده، فتكاتف وتكاثف في مطالب واحدة رخصت أمامها حياته نفسها، فاندفع يعلن الثورة.. ونجاح الثورة في خطوتها الأولى هو في أن تسقط ذلك النظام الذي عانت منه الكثير.. هذا نجاح كبير.. ولكنه الخطوة الأولى فحسب.. فإسقاط النظام ليس هو هدف الثورة.. بل هو الخطوة الأولى للثورة.. فلو أن هدف الثورة هو إسقاط النظام لما تركت الثورة بعدها سوى الفوضى.. ولما حظي الناس بما ينشدون. ولانهار الكيان تدريجيا، وخسر الناس أكثر مما كانوا يملكون قبلها.. الثورة لا تنجح إذن بإسقاط النظام.. الثورة تنجح فقط عندما تصنع نظاما جديدا.. ومشكلة صنع أي نظام جديد أكبر بكثير من مشكلة إسقاط النظام القديم.. وتعالوا نحسبها.. الثورة في مصر قامت بلا قائد.. قامت بمشاعر مشتركة ومطالب مشتركة وغضب مشترك.. وعلى الرغم مما قد يُغضب الكثيرين، فانضمام الجيش إليها كان من أهم عوامل سرعة نجاحها.. ومن أهم عوامل قلة ضحاياها وشهدائها. الثورة نجحت بلا قائد، وهذا أمر عظيم.. ولكنها استمرت بلا قائد، وهذا أمر مؤسف.. فخلال ما يزيد على عام ونصف العام لم ينجح من قاموا بالثورة في أن يتّحدوا في كتلة واحدة متماسكة.. ولا في أن ينتخبوا من بينهم قائدا واحدا.. إنهم على العكس ما أن شعروا أن الثورة قد نجحت حتى بدأت الخلافات والانقسامات بينهم.. والائتلافات تحوّلت من خمسة إلى خمسين إلى مائة، ثم تجاوزت خانة المائة بكثير.. الأحزاب تصارعت فيما بينها في محاولة كل منها للفوز بالنصيب الأكبر.. حتى الشعب نفسه راح يتصارع على الفوز بشيء ما.. أي شيء.. تظاهرات.. مليونيات.. صراعات.. تخوين.. غضب.. مشاعر وإجراءات سلبية محبطة غير منظمة، لم يكن الهدف منها فعليا هو استكمال الثورة بقدر ما كان إثبات القوة والقدرة.. وغاب عن الكل حقيقة أساسية.. حقيقة تقول إن هناك فارقا كبيرا بين ما نستطيع فعله وما ينبغي فعله.. البلطجي الذي يحمل سلاحا ويستوقف الناس بالقوة للاستيلاء على ممتلكاتهم يفعل ما يستطيع فعله، وليس ما ينبغي فعله.. والفارق كبير.. كبير جدا.. جدا.. الثائرون وجدوا أنهم يستطيعون حشد الآلاف، فحشدوهم كل أسبوع، وتفنّنوا في إطلاق المسميات على المليونيات.. وأرهقوا الشعب العادي.. أرهقوه حتى ملّ المليونيات وزهدها، وبات يتخذ منها موقفا عدائيا وليس مؤازرا.. الأخطر أن كثرة المليونيات أسقطت مغزاها وقيمتها لديه.. بل صار يخشاها.. ويرفضها.. ويعاندها.. وهنا خسرت الثورة أحد أهم أسلحتها.. وكل هذا لأنه لم يكن هناك قائد يقودها أو ينظّم خطواتها أو يرشد مليونياتها.. ومنذ البداية ومن أكثر في عام طالبت هنا بترشيد المليونيات حتى لا يسأمها المواطن.. وحتى يمكن حشدها عندما يحتاج الأمر إلى هذا فعليا.. ولكنها شهوة الثورة التي تتوازى مع شهوة السلطة.. شهوة الشعور بقوة الجماعة، وما يمكنها إنجازه مجتمعة.. ولكن غياب القيادة كما يخبرنا التاريخ يؤدي دوما إلى نتيجة واحدة.. انفراط عقد الجماعة.. ولقد بدا هذا واضحا في محاولات حشد المليونيات الأخيرة.. وحتى في تسلسل المليونيات نفسها.. فمع بداية الثورة خرج الملايين بالفعل.. وبعدها بستة أشهر خرج مئات الألوف.. وبعدها بسنة خرج عشرات الألوف.. والآن يخرج الألوف.. وغدا سيخرج المئات.. ثم العشرات فحسب.. كل هذا ولم تحقق الثورة أهدافها الأساسية بالفعل.. صحيح أنها مضت في خطوة قوية كبيرة، وخاصة بعد أن انتخب الشعب -ولأول مرة في تاريخه- رئيسه بنفسه من خلال انتخاب حقيقي مباشر. ولكن مرحلة البناء لم تبدأ بعد.. فالهدف الفعلي للثورات هو أن تنقل المواطن من حال إلى حال.. أن تعيد إليه حريته، وتحيطه بسيادة القانون، وتحقق التوازن بين دخله ومعدلات إنفاقه، وتسيد العدل على حياته.. وكل هذا لن يحدث من تلقاء نفسه.. إنه يحتاج منا إلى الجهد والعرَق والعمل.. الكثير من الجهد.. والغزير من العرق.. والمخلص من العمل.. فالثورة هي البناء وليس الهدم.. ومنذ قيام الثورة انشغلنا بالهدم ونسينا البناء.. بعضهم أفتى بأنه من الضروري هدم النظام القديم بأكمله قبل بناء أي نظام جديد.. المقولة أنيقة برّاقة، ولكنها ثورية بأكثر مما هي منطقية.. فكل شعب وكل دولة لها طاقة.. وتلك الطاقة إما أن تُستهلك في الهدم وإما في البناء.. والوسيلة الأمثل بالطبع هي أن يسير الهدم والبناء جنبا إلى جنب.. فهدم النظام القديم لن يأتي بتغيير قياداته فحسب؛ لأن تلك القيادات تتبع نظاما إداريا فاسدا لو استمر على حاله لما أفادنا تغيير القيادات بشيء.. إننا نحتاج إلى بناء نظام جديد.. نظام يحترم حرية المواطن وحقوقه، ويؤمن بسيادة القانون، ويعلو بها فوق أي سيادة أخرى. أيا كانت.. نظام يحقق العدالة والمساواة، ويساوي بين أصغر مواطن في مصر وأعلى الموطنين شأنا ومنصبا.. فمتى نبدأ في بناء هذا النظام الجديد؟! متى نتوقف عن التفكير في الهدم ونبدأ مرحلة البناء؟! متى تحقق الثورة الهدف الحقيقي لكل الثورات؟! احسبوها أنتم وأجيبوني.. متى؟