للحظة انفصلت عما حولي من متابعة سياسية وإحصاء لنتائج العملية الإجرامية التي تمت على تراب سيناء، وملاحقة ردود الأفعال والمكاسب والخسائر.. ورحلت إلى سيناء بروحي، وكأني أجلس أتناول طعام الإفطار مع هؤلاء المجندين والضباط في هذه النقطة الآمنة في قلب الصحراء.. تجمّع الجنود والضباط معا، ملتفين حول مائدة مستديرة لا تبيّن من القائد ومن المقود، من الكبير ومن الصغير، وتوحدت كل الرتب في الجلوس القرفصاء أمام الطعام.. هذا يبدأ بالتمر المنقوع منذ الصباح، وذاك يرفع إناء الماء يملأ به جوفه، وثالث يلتقط تمرة جافة، ورابع يمنح زميله رغيفا بعيدا عن متناول يده.. أجول في وجوههم المتحرقة من حر الشمس، وملابسهم المتربة من آثار الغبار والرمال، شفاههم تتمتم بكلمات لا تخلو أن تكون دعاء لله سبحانه بقبول الصيام، وبالأجر العظيم في الدنيا والآخرة.. اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا وبك آمنا.. ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله.. اقتطع أحدهم لقمة من رغيفه وأقبل يضعها في الطبق، ورفع آخر ملعقة الأرز إلى فيه، وبدا الود وروح الصيام الجميلة ترتسم على ملامح الجميع في حالة رضا مثالية عن الحياة رغم ما يبدو فيها حولهم من صعوبات.. لم تبلغ اللقمة فم الجائع، ولم تتجاوز جرعة الماء حلق الظامئ، بل ارتمى هذا وذاك على المائدة، وقد اخترقت بدلا منها رصاصات الغدر جسده، وانفجرت الدماء في الوجوه التي ارتسم الهلع عليها، وقفز كل حي إلى سلاحه الذي لا يعرف له مكانا، وكان خطأه الأكبر أنه أمن على نفسه من الغدر، ومن قال له إن الغدر ليس موجودا في كل مكان.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجلٍ مسلم".. [رواه الترمذي والنسائي].. فمن قتل ستة عشر مسلما آمنين لم يرفعوا سلاحا في وجه أحد.. بسطاء يحرسون حدود مصر، ليس لديهم خبرة ولا صلاحيات قتل وقبض.. بل مجرد عناصر حفظ أمن.. من الذي استحلّ دماءهم وأفتى بأن قتلهم وتفجيرهم كالذباب جائز شرعا.. لن أستبق التحقيقات فأقول إنه "جهادي" أو "إسرائيلي" أو "حمساوي" أو "إيراني" أو أو أو.. لكن الغالب على الظن أنه كان يعمل لصالح قضية كبرى، يقتل الجنود ثم يختطف المدرعة ثم يدخل بها في قلب كمين إسرائيلي، فيفجّرها ويموت شهيدا ومعه حفنة من جنود الاحتلال الغاصب.. هذه قناعته أو هكذا استغلّ من آخرين لا يهم.. المهم أنه ترك أثرا فعليا من ستة عشر شهيدا خلفه.. اليهود لا يموتون في سبيل مبادئهم ليكونوا هم المنفّذين، ولا أظن بهم البراءة وسلامة النية التامة لأفترض أنهم لا دخل لهم بالموضوع، لكن المنفّذ غالبا شباب مسلم مخدوع يظنّ أن نصرة الدين لا تقف كثيرا أمام بعض التضحيات كأثر جانبي لتحقيق الغاية العظمى.. وقتل ستة عشر شهيدا في وقت الإفطار لم يكن أكثر من أثر جانبي لإرهاب الاحتلال وتنفيذ عملية انتحارية سيتحدث عنها العالم.. صدقت يا رسول الله: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجلٍ مسلم".. معظمنا يستميت من أجل إثبات الفرق بين الإرهاب والمقاومة المشروعة، وليؤكد أن هذا شيء وهذا شيء، ونشعر جميعا بالظلم عندما نرى قادة المقاومة المشروعة عن النفس والعرض والوطن مصنفة على رأس المنظمات الإرهابية العالمية.. ولذا ليجبني أحدكم إلى أي جانب تنضمّ هذه الحادثة؟ إلى المقاومة المشروعة عن النفس والوطن ولو سقط في سبيلها بعض الأبرياء، أم هو عين الإرهاب والعدوان على حياة الآمنين من أجل مخطط شخصي لا يخدم القضية ولا يؤتي ثمرة تستحق أن تغتال لأجلها أراوح آمنة مطمئنة.. نتفق جميعا على المقاومة المشروعة، ولا نقبل بأن تضع إسرائيل ظهور الفلسطينيين في الحائط متحدية كل القوانين والقرارات العالمية، وتحرمهم كل حقوقهم ولا تريد منهم أن يدافعوا عن أرضهم بالمقابل، لكن هذه المقاومة لا تتأتى عبر جسر الإرهاب، ولذا واجبنا أن ندافع عن مقاومة الاحتلال أن يلتصق بها هذا الإرهاب الذي لم يراع حرمة جعلها الله فوق حرمة البيت الحرام، وجعل الدنيا كلها أهون منها.. المقاومة شرف، والمقاومون رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ولكن الإرهاب جبن، والاستخفاف بالأرواح وقتل الآمنين غدرا لم يكن أبدا ليخدم قضية كبرى.. بل هو ضعف نفسي، وأدلّ دليل على ذلك أنك دائما ترى الإرهابيين مطية يركبها الظالمون لتحقيق أهدافهم هم، مستغلين حالة الغباء وحب الدماء لدى فئة جاهلة تدّعي خدمة الدين والدين منها براء.. إذا كان هدف هؤلاء الإرهابيين نبيلا ويهدف لخدمة القضية الفلسطينية حقا، فلماذا لا يحاولون تنفيذ أهدافهم بأنفسهم بعيدا عن غيرهم؟ ولماذا يقتلون في سبيل ذلك مسلمين مثلهم آمنين في وقت يستجيب فيه الله الدعاء ويعد الصائم فيه بالفرحة؟ لا يمكن أن يكون قتل النفس الآمنة من الإيمان ولا يمكن أن يكون قتل المسلم وسيلة تقرّب إلى الله زلفى.. ولكنه الإرهاب لا دين له ولا عقل..