عزيزي المواطن.. من فضلك.. لو فوجئت في شارعك الضيق بمعدات بناء وعمال يبنون برجا فارها بسرعة الصاروخ فلا تسأل كبيرهم عمّا إذا كان تصريح البناء يسمح بهذا الارتفاع، فلم يعد أحد يهتم بهذه المهاترات.. وإذا علمت أن العمارة التي صُرح لها بعشرة أدوار تحولت بقدرة قادر إلى برج ارتفاعه خمسة عشر دورا فلا تجادل في "بركة ربنا" يا مؤمن.. ولو -لا قدّر الله- قامت العمارة المذكورة ب"الترييح" على بيتك فلا تعترض وتذكّر حق الجيرة وأننا "نسند" بعضنا بعضا.. أما لو قررت العمارة الفارهة الجديدة أن تنهار على كتف بيتك الصغير القديم فاجعل بيتك لها كتفا حنونا وحين تسحقك الأنقاض لا تلُم قوات الإنقاذ أنها لم تسعفك لأن ضيق شارعك منعها من الدخول، بل لُم نفسك لأنك من دون كل "البراح" في وطننا السعيد قررت أن تسكن شارعا ضيقا.. بصراحة أنت المخطئ.. "إيه اللي وداك هناك؟!". لا تجادل ولا تناقش ولا تعترض يا صديقي.. فهذه هي حال التعامل مع المصائب في بلدك السعيد. هذا تلخيص بسيط لما حدث في منطقة "حارة البطارية" في المنشية منذ يومين.. عندما انهار برج يزيد ارتفاعه عن عشرة أدوار فأطاح معه بثلاثة بيوت صغيرة فقيرة، فضلا عن تهديد بانهيار عدة بيوت بالشارع الضيق قد تلحق به.. ومن تلك اللحظة ونداءات الاستغاثة تدوي في كل مكان أن قوات الإنقاذ والمطافئ وحتى القوات المسلحة والإسعاف لا تستطيع دخول الشارع المردوم وإنقاذ الضحايا من تحت الأنقاض لأن الشارع أشبه بشق الثعبان.. وهنا تكتشف حقيقة كارثية: أن الدولة التي تنتشر بها الشوارع والحواري الضيقة ليست لدى إدارتها خطة للتعامل في تلك المناطق مع وضعها ومواقعها وطبيعتها الديموجرافية حال تعرضها لكارثة.. خيبة ثقيلة يدفع فاتورتها البسطاء. ليس هذا بالغريب، فهذا إرث نظام مبارك الذي كان تعامله الوحيد مع كارثة غرق أكثر من 1000 مصري في عبّارة هو أن يمازح موظفا قال له إنه يذهب إلى عمله في العبارة بقوله "من اللي بتغرق دي؟" ولكن حادث المنشية عليه أن يدق ليس نواقيس بل طبول الخطر في رؤوس السلطة التنفيذية الحالية ورئيسها المنتخب بسرعة وضع آلية قوية متطورة للتعامل مع الكوارث بكل أنواعها.. فنحن من أكثر الدول استعدادا للتعرض لتلك الكوارث ذات الخسائر البشرية المريعة، وهذه ليست مجرد نظرة متشائمة، تعالَ نستعرض ما لدينا على سبيل المثال لا الحصر: 1- طرق معظمها غير ممهد ولا مجهز بأي خدمات مرورية فضلا عن سوء تخطيط تلك الطرق، مما يؤدي بالتالي إلى ارتفاع نسب حوادث السيارات والمارة. 2- مناطق مأهولة -بالذات في سيناء والصعيد- تقع أسفل سفوح جبال معروفة باستقبالها السيول وانحدار تلك السيول عليها نحو تلك المناطق. 3- إهمال فاحش في التعامل مع المواد الخطرة كالمواد البترولية والكيماوية سواء في تخزينها أو نقلها أو تداولها مما ينذر في أي وقت بكارثة.. ويمكن للقارئ سؤال أي خبير مختص بتأمين التعامل مع تلك المواد ليحدثه عن الكوارث التي تحدث في التعامل معها كأنها مياه غازية لا مواد مدمرة. 4- عشوائية في بناء العمارات الجديدة وفساد إداري وهندسي ضارب بأطنابه فيما يتعلق بتصريحاتها وتقاريرها، مما يحوّل تلك البنايات إلى قبور تستعد في أي لحظة لتنفتح وتبتلع سكانها وسكان العمارات المجاورة. 5- عشوائية مفرطة في أشغال مرافق الغاز والمياه والكهرباء وخطوطها التي تمر بالشوارع والبيوت وانعدام للتنسيق بين تلك المرافق، مما يحول تلك الخطوط إلى قنابل موقوتة تنتظر أصحاب الحظ التعيس الذين تحيط بهم لحظة وقوع كارثة من نوعية ترسب غاز أو انفجار ماسورة مياه في منطقة سكنية ضيقة أو ماس كهربائي يشعل حريقا يعلم الله كيف ينتهي. 6- تهدل فاحش في أداء الجهات المختصة بالإنقاذ والتعامل سواء في مرافق الشرطة أو الإسعاف أو الدفاع المدني والحريق.. هناك شهود عيان موثوق فيهم في منطقة عمارة المنشية المنكوبة يتحدثون عن عشوائية وتخبط وتردد في التعامل مع الأنقاض، مع أن التعامل معها فن يجب على محترفين القيام به وإلا تحول بدوره إلى كارثة لا تقل عن سابقتها. ألم أقل لك عزيزي القارئ.. إنها خيبة ثقيلة؟! هذه مجرد عينة عن كم الكوارث التي نفتقر إلى أبسط آليات التعامل معها، طبعا أنا لم أتحدث عن كوننا قد أصبحنا -ولله الحمد- من معتادي الزلازل، وأن المدن الساحلية كالإسكندرية تغرق بالمعنى الحرفي للكلمة في أيام العواصف والنوّات.. هل تتخيلون كم الأرواح التي كان يمكن إنقاذها والخسائر المادية التي كان يمكن توفيرها لو توفرت لنا آليات احترافية "عليها القيمة" للتدخل السريع والتعامل مع الكوارث؟! إن أي دولة تحترم نفسها تفعل هذا، فتنشئ جهة مختصة للتعامل مع الكوارث بمختلف أنواعها وفق سيناريوهات يضعها خبراء محترفون، وتضع لكل سيناريو خطته للتدخل السريع، فضلا عن تدريب المؤسسات المختلفة للتعامل مع تلك الكارثة، فشرطة المرور مثلا تتدرب على كيفية إخلاء الطرق وتغيير المسارات لتجنيب المواطنين دخول المنطقة المنكوبة، وكذلك لتسهيل وصول قوى الإنقاذ والإسعاف إليها، والجهات الطبية تكون مستعدة للتعامل مع حالة طوارئ واستقبال ضحايا، ومرافق الغاز والمياه والكهرباء تكون لديها خطة وآلية سريعة لقطع خدماتها أو تحويل خطوطها عن موقع الكارثة... وهكذا، بل والمواطنون أيضا من حقهم تلقي التأهيل لمختلف أنواع الكوارث والحوادث القدرية، ففي تلك الدول المحترمة سالفة الذكر يتلقى الموظفون تدريبات للتعامل مع احتمال وجودهم في منطقة منكوبة، وتنظم المدارس تدريبات مماثلة للطلاب، فضلا عن مهارات الإنقاذ والإسعاف السريع لحين وصول الطبيب أو المسعف المحترف. وقبل كل ذلك ثمة شيء اسمه "استباق الكارثة بالقضاء على مسبباتها" فالمفترض من جهات الحكم المحلي أن تسعى جديا لتجنب المصائب قبل حلولها، فمصيبة عمارة المنشية هي مجرد نموذج لعشرات -وربما مئات- المصائب المتمثلة في بنايات ارتفعت فوق المسموح به في ترخيصها مستغلة الإهمال والفساد الإداريين والانفلات الأمني والميوعة الرقابية.. وإذا كانت هذه عينة من غياب التعامل الاستباقي مع الكوارث فلنا أن نتخيل صورا مماثلة في قطاعات مختلفة من الدولة تنتظر كوارث من أنواع أخرى لأن أحدا لم يكلف خاطره أن يسأل نفسه: إلى ماذا يؤدي بنا هذا الفساد المتفشي في البر والبحر؟! قدّر الله وما شاء فعل.. والله لا يفعل بنا إلا خيرا، فكارثة عمارة المنشية وما ارتبط بها عليها أن تفيقنا لما نفتقد -مؤسسات وأفرادا- من قدرة على التعامل الجدي الفعال مع الكوارث.. وهو ملف أعتقد أن على الرئيس مرسي أن يضعه على رأس خططه فيما يخص إدارة المحليات والمرافق والمؤسسات الخدمية وجهات الأمن والإغاثة المختلفة، فإن كان -بحق- غير مسئول عما أصابنا من تدهور في هذا الجانب من الحياة فإنه مسئول أمام الله وأمامنا عن إيجاد حل لتلك المشكلة فادحة الخطر. كذلك ينبهنا ما جرى أن فكرة "دولة القانون" ليست مجرد رفاهية أو كماليات، بل هي إحدى آليات إنقاذ أرواح تذهب يوميا إلى ربها في حوادث مختلفة شاكية مسئولين تقاعسوا في صون حقها في الحياة الآمنة. فهل لكارثة عمارة المنشية أن تنبه أصحاب القرار لملف هام ربما تفوق أهميته ملفات أخرى محل جدل ولغط واسعين؟!