السنوسي محمد السنوسي من المهم أن أشير إلى أن حديثي في هذه السطور عن الشيخ محمد حسان هو حديث عن نموذج لتيار عريض ومهم هو التيار السلفي، ومجرّد مثال لهذا التيار الواسع، وليس المقصود أبدا أن أسيء إلى الشيخ حسان أو أتناوله بسوء؛ فهو عندي له مكانة كبيرة وإن كانت لا تمنع من الاختلاف معه ومع التيار الذي يُمثّله. وكلمة "تصالح" الواردة في العنوان؛ تفيد بوجود حالة خصام كانت حادثة مع السياسة قبل الثورة من التيار السلفي بوجه عام، لكنه حاول برموزه وعلمائه أن يتجاوزها ويتصالح معها بعد أن فتحت الثورة الباب على آخره لكل التيارات والأفكار لتعبّر عن رأيها ورؤيتها بحرية. فهل استطاع هذا التيار فعلا أن يتصالح مع السياسة ويهضمها، ويقدّم فيها رؤية متماسكة تعبّر عنه وتتماشى مع مرحلة جديدة من تاريخ المصريين جميعا؟ بدايةً أشير إلى أن الشيخ محمد حسان -وهو صاحب قناة "الرحمة"- قرّر أن يُعيد قناته لتصبح "دعوية خالصة" حسب قوله، بعد أن أخطأ أحد مقدّمي البرامج فيها وهو ملهم العيسوي حين أذاع نبأ غير صحيح بأن الشيخ محمد حسين يعقوب قد شارك في اعتصام العباسية الشهير الذي كان موجّها ضد المجلس العسكري. تزامن ذلك مع توجيه محمود حسان -أخو الشيخ محمد- كلمات الثناء والمدح لتوفيق عكاشة، وهو ما أثار استهجان الكثيرين؛ ومنهم أتباع التيار السلفي نفسه والمقرّبون من الشيخ حسان الذي اضطرّ إلى أن يصرّح بعدها بأنه لا يُفوّض أحدا للحديث باسمه، حتى لو كان أخاه أو ابنه. حادثة ثالثة لها مغزاها في هذا المعنى، وهي أن الدكتور هشام أبو النصر -أمين عام حزب النور بالجيزة- أعلن استقالته من الحزب وتفرّغه ل"العمل الدعوي"، بعد خلافه مع أعضاء الحزب فيما رآه تباطؤا منهم بعدم إعلانهم دعم الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل أثناء الفترة التي كان فيها مرشّحا محتملا للرئاسة قبل استبعاده بعد ذلك كما هو معروف. ما الدلالة المشتركة لهذه الحوادث الثلاثة؟ الدلالة في رأيي هي أن التيار السلفي وهو الذي كان في عمومه بعيدا تماما عن السياسة قبل الثورة، وكان شبه منعزل عن الحياة في المساجد بما فيها من أجواء إيمانية خالصة هادئة؛ فوجئ بعد دخوله معترك السياسة أن هذا المجال الجديد له قواعد وأسس مختلفة تماما عمّا ألفه من قبل، لدرجة أن بعضهم حين لم يستطِع التعامل مع المجال الجديد بما فيه من صراع ومناوشات ومنافسات قد يكون بعضها غير أخلاقي، لجأ إلى الاعتزال (د. هشام أبو النصر) أو إلى غلق الباب الذي يأتي منه الريح (الشيخ حسان). وإذا أخذنا هذا في الاعتبار ورجعنا بالذاكرة إلى المليونية الضخمة (بل تجاوز العدد مليونين!) في مليونية "الشريعة" أو "الهوية" التي دعا إليها، وشارك فيها عدد كبير من دعاة ورموز التيار السلفي، ردا على ما أعلنه بعض الليبراليين وغيرهم عن نيتهم تعديل المادة الثانية من الدستور.. إذا أخذنا هذا في الاعتبار ثم قارناه ب"الصمت المريب" من دعاة ورموز هذا التيار السلفي فيما يثار الآن حول ما يُسمّى "الإعلان الدستوري المكمّل" و"صلاحيات المجلس العسكري"، حتى إن مليونية الجمعة الأخيرة كان العدد فيها ضئيلا جدا بالمقارنة مع المليونيات التي يدعو إليها الإسلاميون. إذا قارننا مليونية "الشريعة" بمليونية "رفض الإعلان الدستوري المكمّل"؛ فيمكن أن نقول بكل صدق مع النفس ومن غير ما يزعل حد: إن التيار السلفي بالذات من دون الإسلاميين في عمومهم لم يتصالح مع السياسة!! ولو كان قد تصالح بالقدر الكافي لانتفض ضد محاولة عسكرة الدولة، كما انتفض من قبل ضد محاولة علمنة الدولة؛ مع أن "العلمنة" كانت مجرد مطالبات، أما "العسكرة" فهي واقع الآن يوشك أن يكون راسخا. لكن من الواضح أن البعض قد حصر قضيته فيما يعتقد أنها قضية الشريعة!! ولم يدرك أن الحفاظ على مدنية الدولة في مقابل عسكرتها، وأن ضمان استقلال حرية الإنسان والحفاظ على كرامته وحقه في التعبير هو من صلب الشريعة وليس مناقضا لها أبدا.. وهل يمكن أن يطبّق الشريعة إلا إنسان حر صاحب إرادة مستقلة؟! ولهذا كان ينادي كثيرا العلّامة يوسف القرضاوي والأستاذ فهمي هويدي... وغيرهما أن "الحرية مقدّمة على تطبيق الشريعة".. طبعا هذا إذا أصرّ البعض على أن الشريعة هي مجرد القوانين الإسلامية، وإلا فإن الحرية هي في القلب من مفاهيم وأركان الشريعة، وبالتالي فإن البدء بضمان الحرية هو تطبيق عملي للشريعة. لقد كنت أتصوّر حين ذهبت إلى التحرير لأشارك في مليونية رفض ما يُسمّى "الإعلان الدستوري المكمّل" الذي خرج متخفيا بالليل قبيل إعلان اسم الرئيس الفائز، ودون الاتفاق إلا مع بعض القوى الليبرالية واليسارية التي يسمّيها د. سيف الدين عبد الفتاح "أحزاب مدنية بمرجعية عسكرية".. كنت أتصوّر أنني سأرى الميدان مزدحما يفيض بالملايين الزاحفين إليه من كل مكان، يرفضون المساس بحرية الإنسان المصري وكرامته، أيا كان.. لكن ظنّي خاب حين لم أجد هذا الحشد، رغم أن عدد الموجودين كان أكثر من تظاهرات أخرى لغير الإسلاميين، لكني أقارن هنا بين موقف الإسلاميين والتيار السلفي بالذات من قضيتين هما على قدم المساواة، على الأقل في رأيي. وخلال الأيام الماضية، أحزنني كثيرا أنني لم أسمع من التيار السلفي موقفا صريحا من الإعلان الدستوري المكمّل، ولم أسمع من الشيخ محمد حسان كلمة واحدة عنه، وهو الذي دعا في وقت سابق إلى الوقوف مع المجلس العسكري ضد من رآهم يسعوْن إلى هدم الدولة وضرب استقرار المجتمع. إن عودة قناة "الرحمة" إلى ما سمّاه الشيخ حسان "منهجها الدعوي الخالص"، واستقالة الدكتور هشام أبو النصر وعودته إلى ما سمّاه "العمل الدعوي"، وعدم مشاركة حزب النور في جمعة "الصمود" ضد "الإعلان الدستوري المكمّل"، وسكوت رموز التيار السلفي عن الموقف من هذا الإعلان.. كل هذا يدفعنا للتساؤل: ماذا يعني مفهوم "الدعوة" عند التيار السلفي وعند الشيخ حسان؟ وهل الدعوة مناقضة للسياسة أم السياسة جزء من الدعوة؟ وما العلاقة بينهما بالضبط؟ وما موقع الحرية من الشريعة؟ بل وما مفهوم الشريعة أصلا؟ أرجو أن نرى إجابات واضحة خلال الأيام القادمة، حتى يمكن أن نحكم بدقة على ما إذا كان السلفيون والشيخ حسان تصالحوا مع السياسة أم لا؟