انكمش (عماد) و(أشرف) على نحو مثير للشفقة، في مقعدين كبيرين، داخل تلك الحجرة الواسعة، في مبنى يجهلان ماهيته بالضبط، وبدا وجهاهما شاحبين ممتقعين، وهما يحدقان بعيون متسعة في الرجال الصامتين الذين وقفوا داخل الحجرة جامدين، كما لو أنهم تماثيل من الصلب، ترتدي حللاً سوداء متشابهة، ومناظير شمسية داكنة، على الرغم من وجودهم داخل حجرة مغلقة، بعيداً عن الشمس تماماً..... ثم انتفض جسداهما في شدة، عندما انفتح الباب فجأة، ودخل منه ذلك الرجل، الذي اعتقلهم جميعاً في نقطة شرطة (الرحاب).... كان هادئ الملامح، كما ظل طوال الوقت، يتحرك في ثقة واعتداد، وينظر إليهما بنظرة خاوية، لا تحمل أية انفعالات واضحة.... وعندما تحدَّث، كانت لهجته هادئة كملامحه، وهو يقول: - هل أحضر لكما ما تتناولاه؟!... حدَّقا فيه في شيء من الذعر، وبدا لهما الموقف كله غير متناسب مع عبارته، وخاصة عندما أردف، مع ابتسامة هادئة: - الساعة شارفت على الثالثة، ولا ريب في أنكما جائعان، ولدينا هنا مطعم صغير؛ ولكنه يقدم وجبات شهية. غمغم (أشرف)، في لهجة أقرب إلى البكاء: - هنا؟.. تجاهل الرجل تعليقه هذا تماماً، والتفت إلى (عماد)، يسأله: - ما رأيكما؟!.. غمغم (عماد) في صوت مرتجف: - أريد العودة إلى منزلي... لم تبد على الرجل أية انطباعات للكلمة، واتجه في هدوء إلى مقعد يواجههما، وجلس عليه قائلاً: -هل أساء إليكما أحد هنا؟!. غمغم (عماد): - وجودنا هنا، في حد ذاته، إساءة.. اندفع (أشرف) يضيف في توتر: - إننا محتجزان على الرغم من إرادتنا.. أومأ الرجل برأسه متفقاً ومتفهماً، وهو يقول: - للأسف.. لم يفهما بالطبع ما يعنيه أسفه، ولكن (عماد) استجمع شجاعته، وسأله في حذر: -هل تعني أنه باستطاعتنا الرحيل؟!.. استدار إليه الرجل، بنفس النظرة الخاوية، وتطلَّع إليه بضع لحظات، ثم قال في هدوء: - بالتأكيد... انفرجت أساريرهما في فرحة لهفة؛ ولكنه استدرك في صرامة: - ولكن ليس الآن.. عادا ينكمشان، و(أشرف) يقول، وقد ترقرقت عيناه بالدمع فعلياً: - متى إذن؟!.. صمت لحظات طوال هذه المرة، ثم بدا صوته شديد الصرامة، وهو يجيب: - عندما أتلقى الأوامر بهذا.. " أوامر من بالضبط؟!....." هتفت (إيناس) بالسؤال في عصبية، عندما كررَّ الأمر عليها، في الحجرة التي يحتجزونها فيها وحدها، بعد دقائق قليلة؛ فعقد ساعديه أمام صدره، وبدا شديد الصرامة، وهو يجيب: - حتى هذا، لا يمكنني أن أخبرك به. شعرت (إيناس) بغضب شديد في أعماقها، إلى الحد الذي جعلها تصرخ في وجهه: - ماذا تخفون بالضبط؟!... من الواضح أن سؤالها أتى في الصميم مباشرة؛ فقد اتسعت عينا الرجل، وتخلى عن ملامحه الجامدة فجأة، وهو يقول: - نخفي؟!... صاحت فيه: - من الواضح أنكم تفعلون كل هذا ؛ لإخفاء شيء ما.... شيء يتعلق ب..... بترت عبارتها دفعة واحدة، في توتر بالغ، فمال الرجل نحوها، يسألها في غلظة: - بماذا؟!...
إيناس: هل رأيت ذلك الشيء بنفسك؟!.. ترددَّت لحظة، ثم اندفعت قائلة: - بالطبق الطائر... تراجع في حركة حادة، وهو يرددَّ مندهشاً: - طبق طائر؟!.. أدركت أنها قد بلغت نقطة اللاعودة، وأنه لا جدوى من محاولة التراجع، فتابعت في توتر شديد: - ذلك الشيء، الذي رآه (جو)، والذي طاردته المقاتلات الحربية فوق (الرحاب)، والذي صنع هذه الفرقعة القوية، التي تجاوزت المعتاد.... انعقد حاجباه، وهو يتراجع محدَّقاً فيها، مما ضاعف من توترها، فأردفت في عصبية: - لقد اعتقلتم كل من وصله الأمر، حتى ضابط الشرطة نفسه.. خفض الرجل عينيه، وبدا لحظات وكأنه يدرس الأمر كله، قبل أن يرفع بصره إليها في حركة حادة، قائلاً: - ماذا تعرفين أيضاً؟!... نظرته هذه المرة حبست الكلمات في حلقها، وعقدت لسانها، فتمتمت في خفوت متوتر: - لا شيء... مال نحوها، على نحو جعلها تتراجع في خوف، وهو يسألها في صرامة: - من أخبرت أيضاً بهذا؟!... والديْك، أم والديْ(جو)؟!... ارتجفت بشدة، وهي تهتف: - لم نخبر أحداً.... أقسم لك. بدا الشك المطلَّ من عينيه واضحاً، وهو يحدَّق في عينيها مباشرة، قبل أن يتراجع، ويهدأ صوته، وهو يقول: - هل رأيت ذلك الشيء بنفسك؟!.. ارتبكت في توتر، وهي تجيب في حذر: - (جو) رآه. كررَّ في حزم: - هل رأيته بنفسك؟ صمتت لحظات، ثم أجابت في إصرار: - لو قال (جو) إنه رآه، فقد رآه. هزَّ رأسه في بطء، قائلاً: - أو توهَّم أنه رآه.. غمغمت، وقد تضاعف حذرها: - توهَّم؟!... أشار بيده، قائلاً: - سأخبرك بالحقيقة.... كلها. أدهشها قوله هذا، فتمتمت، وحذرها يتزايد: - هل ستخبرني بها حقاً؟!.. هزَّ كتفيه، قائلاً: - لن يحدث هذا فارقاً. وصمت لحظة، ثم أضاف في صرامة: - فلن تغادروا هذا المكان، حتى ينتهي الأمر... اتسعت عيناها في ذعر، لم يلبث أن تحوَّل، إلى غضب شديد، جعلها تهتف في حدة: - ماذا فعلتم ب (جو)؟!... تجاهل الرجل سؤالها تماماً، وهو يقول: - ما رآه (جو) في الواقع هو طائرة تجريبية جديدة، نجري تجاربنا عليها في سرية بالغة. هتفت في حدة مكررة: - ماذا فعلتم به؟!.. مرة أخرى، تجاهل سؤالها تماماً، وواصل، وكأنه لم يسمعها: - إنها طائرة تسير بخمسة أضعاف سرعة الصوت، وهذا يعني أن تخترق حاجز الصوت في عنف، يصنع هذه الفرقعة القوية. قالت في حدة شديدة: - هذا لا يجيب سؤالي.. أحنقها أن تجاهل عبارتها على نحو تام، وواصل: - ومن الخطر أن نعلن عن هذه الطائرة الآن، و.... صاحت تقاطعه في غضب: - هراء... كل ما تقوله كذب.... الأقمار الصناعية تراقب (مصر) طوال الوقت، وطائرة كهذه لا يمكن صنعها أو اختبارها، دون أن يشعر أحد. توقَّف يلتفت إليها في صرامة، فتابعت، وهي تتراجع بحركة غريزية متوترة: -ومن المؤكد أن (جو) ليس الوحيد الذي رصد ما حدث، ولا أحد يجري تجاربه على طائرة سرية، فوق مدينة سكنية كبيرة.... ربما فوق الصحراء، أو.... قاطعها ذلك البريق الذي تألق في عينيه فجأة، وذلك الصوت شديد الاختلاف، الذي خرج من بين شفتيه، وهو يتجه نحوها، قائلاً: - من الواضح أنك شديدة الذكاء.... وهذا خطر كبير. واكتسبت لهجته قساوة مخيفة، وهو يضيف: - كبير جداً... وبكل رعبها وذعرها، أطلقت (إيناس) صرخة مدوية.... صرخة هزَّت كيانها كله.... ولم يسمعها أحد.... على الإطلاق. يتبع..