بعد النجاح الساحق الذي حققه الراحل أحمد ذكي في تجسيد شخصية طه حسين عميد الأدب العربي بمسلسل "الأيام"، تراجع الإقبال على إنتاج مسلسلات السيرة الذاتية التي تجسد مسيرة مشاهير الفن، والأدب، والسياسة، حتى سلّط مسلسل "أم كلثوم" الضوء من جديد على هذه النوعية من الأعمال الدرامية بعد أن تألقت فيه الفنانة الرائعة صابرين، وجذبت انتباه الجميع بلا استثناء لمتابعة مشوار كوكب الشرق منذ نشأتها في الأرياف، حتى تربعها على قمة سلم المجد دون أن ينازعها فيها أحد سواء في حياتها، أو بعد مماتها، لتظهر إلى النور عشرات المسلسلات التي تم إنتاجها بالفعل أو أعلن المنتجون أنها في الطريق للظهور، بشكل يطرح تساؤلات تمسّ الضمير والأمانة التي سنحاسب عليها يوم القيامة: هل مسلسلات السيرة الذاتية ترصد حياة المشاهير حقاً أم تتاجر بسمعتهم وأعراضهم؟ ولماذا يُقبل المنتجون على هذه النوعية من المسلسلات؟ وهل يستقي المشاهدون معلوماتهم عن المشاهير من تلك المسلسلات أم يشاهدونها بغرض التسلية والإمتاع فحسب؟ لا شك أنكم لاحظتم معي أن معظم مسلسلات السيرة الذاتية قد فشلت -في معظمها- فشلا ذريعا في إشباع نهم المشاهدين، أو إرضاء حُكم النقاد، بخلاف تجاوز الأمر في كثير من الأحيان إلى ساحات القضاء للبت في الدعاوى القضائية التي يرفعها بعض ورثة هؤلاء المشاهير مطالبين بالتعويضات المادية الفادحة لما أصابهم من أضرار مادية وأدبية نتيجة تشويه ذويهم في أعمال فنية تجافي الحقيقة!
بعض هذه الأعمال وصفها النقاد والجمهور معاً -متفقين في مرة من المرات النادرة التي يتفقون فيها- أنها شوّهت الحقائق، وحقّرت من الرموز الذين رسم لهم الجمهور صوراً جميلة في خياله ووجدانه وذاكرته، فإذا بهم يتحولون في معظم تلك الأعمال إلى شياطين رجيمة، مثلما حدث في "السندريلا سعاد حسني" بطولة منى زكي، و"أسمهان" بطولة سلاف فواخرجي، بينما بالغت في تقديس بعض الرموز وأظهرتهم ملائكة منزهين عن الخطأ، وكأنهم لا ينطقون عن الهوى مثلما حدث في "ناصر" بطولة مجدي كامل، وفى أحيان ثالثة تأتي بتاريخ مغاير ومختلف تمام الاختلاف عن ذلك التاريخ الذي عرفناه ودرسناه في طفولتنا وصبانا مثلما حدث في مسلسل "الملك فاروق" بطولة تيم الحسن، في حين فشل البعض الرابع لضعف الدعاية، وبثه في أوقات لا تتمتع بارتفاع نسبة المشاهدة وهو ما حدث في عدد لا بأس به من المسلسلات على رأسها "فارس الرومانسية" الذي تناول السيرة الذاتية للأديب الكبير يوسف السباعي بطولة محمد رياض، و"قاسم أمين" بطولة كمال أبو رية، أما النوع الخامس فقد أخفق لأن الفنان الذي يجسد الشخصية الحقيقية -أو الفنانة- جاء أداؤه بعيدا كل البعد عنها سواء في الشكل، أو الروح، أو أبرز السمات والحركات التي كانت تصدر منها، وهو ما لمسه الجمهور وتيقن منه في مسلسلي "أبو ضحكة جنان" الذي جسّد السيرة الذاتية لأسطورة الكوميديا الراحل إسماعيل ياسين، بطولة أشرف عبد الباقي، و"قلبي دليلي" الذي تناول مسيرة العملاقة ليلى مراد بطولة السورية صفاء سلطان.
كلام جميل.. لكن ما المناسبة؟! ما يقرب من 16 مسلسل سيرة ذاتية تم الإعلان عن تقديمها حتى الآن، عن حياة الدكتور مصطفى محمود، والدكتور مصطفى مشرفة، والملكة نازلي، ونجيب الريحاني، وبيرم التونسي، وبليغ حمدي، ومنيرة المهدية، وهمام آخر ملوك الصعيد، وروزاليوسف، وكليوباترا، وعمر المختار، وفريد شوقي، وتحية كاريوكا، وإحسان عبد القدوس، ومحمد فوزي، ورشدي أباظة، ومحمد علي بشكل يقول إننا مقبلون على هوجة تحولت فيها الرموز الغائبة بأرواحها وأجسادها، والحاضرة بفكرها وأعمالها، إلى سبوبة يتكسب من ورائها المنتجون، ومجد سريع يقفز ببعض الفنانين إلى القمة.
هل أنا ضد تحويل السيرة الذاتية لمشاهيرنا ورموزنا إلى أعمال درامية؟! كلا بالطبع.. ولكني -مثل معظم الجمهور- ضد "سلق البيض"، والاعتماد على اسم الشخصية الشهيرة لضمان التوزيع دون إعطائها حقها في البحث والاطلاع، خاصة فيما يتعلق ببشر رحلوا عن عالمنا، ولا يملكون حق الدفاع عن أنفسهم أو توضيح أي سوء فهم قد يلتبس على المشاهدين، خاصة وأننا نعلم أنه حتى الورثة الذين يضيقون أحيانا من الأخطاء التي ارتكبت في حق ذويهم من المشاهير الراحلين، لن يصل صوتهم وتوضيحهم إلى كل من شاهد تلك الأعمال.. مثلي مثل معظم الجمهور في الاعتراض على سرعة تصوير عمل فني يتناول سيرة ذاتية لرمز راحل دون الدراسة الكافية لكل تفاصيل حياته، واللجوء لكل المراجع التي تحدثت عنه، ومقابلة كل من عاصروه وعرفوه عن قرب -إن كان لهم وجود- بخلاف المؤرخين السياسيين، والفنيين، والمثقفين الذين يعرفون الكثير من الحكايات والأسرار عن هذه الشخصيات بهدف اللحاق بموسم رمضان بأي ثمن للحصول على جزء من كعكة الإيرادات والإعلانات..
مثلي مثل معظم الجمهور في التبرم والضيق من التركيز على جوانب النميمة والشائعات والفضائح في حياة هؤلاء بهدف الاتجار بأعراضهم وسمعتهم لجذب أكبر كم من المعلنين والمشاهدين، ومثلما أنا ضد تقديس الرموز، فإني أرفض تماماً أكل لحم الموتى والمبالغة في تسفيههم وتحقيرهم، إذ إننا نتناول سيرتهم في المقام الأول والأخير للعبرة والعظة، وملاحظة قصة الصعود والهبوط لبشر بلغت شهرتهم الآفاق، وكانوا يوماً ملء الأسماع والأبصار، فما يحدث في الدراما الذاتية عكس الدراما الاجتماعية التي من الممكن أن تفشل أو تنجح دون أن تضر أحداً، أما السيرة الذاتية فلها حسابات أخرى؛ إذ إنها تتناول سيرة بشر حقيقيين كانوا يوماً بيننا، وتاريخهم ملك الجمهور والبلد التي تفتخر بهم بما قدموا لها من خدمات وإنجازات، وبالتالي لا يحق أبداً أن نتحدث عنهم إلا بما هو مؤكد وموثق، ذلك بأن البينة على من ادّعى والشهادة على من أنكر.
الآن، وبعد كل ما شاهدتموه من أعمال درامية تتناول السيرة الذاتية للمشاهير، لا شك وأن لكم وجهة نظر فيما شاهدتم، لذا دعوني أعيد السؤال على حضراتكم.. هل مسلسلات السيرة الذاتية ترصد حياة المشاهير أم تتاجر بسمعتهم وأعراضهم؟ وهل تشاهدون تلك المسلسلات بغرض استقاء المعلومات عن هؤلاء الرموز أم إن الهدف هو التسلية والإمتاع فحسب؟