يظلّ أحمد زكي أحد أساطير الشاشة المصرية، وعملاقا من عمالقة التمثيل في الوطن العربي كافة، ولا أكون مجحفا إن أكدت أنه أحد أعظم الممثلين على مستوى العالم. كان يخلو الأداء التمثيلي لأحمد زكي من أي مبالغة أو استهتار، فكان يخلص لكل الأدوار التي يقوم بها؛ حتى تشعر أنك تشاهد الشخصية التي يقوم بتجسيدها حية من لحم ودم. انتصر أحمد زكي دوما للشخصيات المهمشة البعيدة عن الأعين والتي لا يراها أحد؛ فعندما جسّد شخصية أحمد سبع الليل في فيلم "البريء" كان يجسد الجهل حينما تسيطر عليه السلطة وتطلقه كقوة غاشمة تجاه كل من يعاديها مع إقناعه بأن هؤلاء هم أعداء الدولة. وحينما جسّد شخصية حسن هدهد في فيلم "كابوريا" عرض عليك شخصية الشاب الضائع الذي لا يجد من يوجّهه في ظل مجتمع قاسٍ لا ينظر لما حوله ولا ينحاز للضعفاء، فيجب عليك أن تكون قويا لتستطيع مواجهته، حتى في فيلم "مستر كاراتيه" حينما جسّد شخصية الشاب الريفي الذي تغيره المدينة التي لا ترحم من شخص بسيط إلى شخص مختلف فيحاول أن يغير هذا كله بطريقته. ميلاده وُلد أحمد زكي يوم 18 نوفمبر سنة 1949 في مدينة الزقازيق، وحصل على دبلوم ثم التحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية وتخرج فيه عام 1973. كانت حياة الراحل شديدة الصعوبة؛ فبعد أن توفي والده بسنوات قليلة من ميلاده تزوجت والدته من شخص آخر؛ وهو ما اضطره للعيش مع جده. حياته الشخصية تزوج أحمد زكي مرة واحدة من الفنانة الراحلة هالة فؤاد، وأنجب منها ابنهما الوحيد هيثم أحمد زكي؛ إلا أنه انفصل عنها قبل وفاتها بعدة سنوات. بدايته الفنية أثناء دراسته في المدرسة الصناعية التحق بفريق المسرح بالمدرسة، وقام بأداء العديد من المسرحيات؛ حتى رآه في إحدى الحفلات بعض النجوم الذين حضروا الاحتفالية بالمصادفة فنصحوه بأن يدرس المسرح، وهو ما لقي صدى واسعا في صدر الفتى الأسمر؛ فقرر أن يدرس المسرح والتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية. أثناء دراسته في المعهد كان يزامله عدد من النجوم؛ منهم: الفنان محمد صبحي، والفنان نبيل الحلفاوي، والفنان سعيد صالح، وقد اختاره الراحل عبد المنعم مدبولي مع محمد صبحي وسعيد صالح ليقوموا بعدة أدوار في مسرحية "هاللو شلبي" التي كانت أول ظهور حقيقي له على خشبة المسرح. تألّق الفهد الأسمر بعد ذلك في عدة مسرحيات؛ منها مسرحية "مدرسة المشاغبين"؛ حيث جسد دور الفتى الفقير في المسرحية الشهيرة، والتي لاقت نجاحا كبيرا في بدايات عرضها. تألقه بدأ أحمد زكي في التألق منذ أن عرضت عليه أول بطولة له في فيلم "شفيقة ومتولي" مع السندريلا سعاد حسني، وقد أصرّت سعاد حسني على أن يقوم هو ببطولة الفيلم رغم اعتراض الكثيرين وقتها؛ لأن ملامحه لا تشبه ملامح الأبطال الجانات المعروفين، ونشأت بعدها علاقة صداقة قوية بينه وبين السندريلا، وقدّما سويا بعد عدة سنوات: فيلم "موعد على العشاء"، وفيلم "الراعي والنساء"، ومسلسل "هو وهي". استطاع الراحل أن يكسر حاجز البطل الذي يتألق معتمدا في المقام الأول على المقومات الشكلية التي تعتمد على الملامح الوسيمة للبطل "الجان"؛ حيث أحدث ثورة كبيرة وقتها في مقاييس البطل وكيفية اختياره. استطاع زكي أن يثبت نفسه في العديد من المواقف؛ حيث استطاع في فيلم "الباطنية" -الذي كان يمثل فيه بين عملاقين وهما فريد شوقي ومحمود ياسين- أن يحصد كل الجوائز التمثيلية وحده رغم وجود نخبة من الفنانين بجواره.
كيف كان يعمل؟ كان الفنان الراحل يرفض على الإطلاق أن يقوم أي دوبلير بالمشاهد الخطرة في أفلامه؛ حيث كان يرى أن هذا الأمر يُضعف من قدرة الفنان على التعبير عن الشخصية التي يجسدها. ولهذا الأمر عدة مواقف؛ منها: فيلم "عيون لا تنام" حمل أنبوبة غاز مشتعلة، كما ألقى بنفسه من سيارة مسرعة في فيلم "طائر على الطريق"، وأكل علقة ساخنة حقيقية في فيلم "العوامة 70". كما نام في ثلاجة الموتى بعد أن أسلم نفسه للماكير الذي كسا أو دهن وجهه بزرقة الموت والجروح الدامية، كما اقتضى دوره في فيلم "موعد على العشاء"، وقد بقي في الثلاجة إلى أن دخلت عليه بطلة الفيلم سعاد حسني؛ لتكشف عن وجهه، وتتعرف عليه بعد أن صدمه زوجها السابق بسيارته وقد أعيد تصوير المشهد -الذي استلزم إقفال الثلاجة على أحمد زكي- عدة مرات حتى لا تأتي اللقطة التي لا تستغرق أكثر من بضع ثوان من وقت الفيلم غير مقنعة للمتفرج، ويقول عن تجربته داخل الثلاجة: "أحسست بأن أعصابي كلها تنسحب وكأنما توقفت دقات قلبي وأنا أحاول تمثيل لقطة الموت، وقد ضغطت على قدمي بشدة لأنبه أعصابي وأنذرها". وفي فيلم "طائر على الطريق" أصرّ على تعلّم السباحة، عندما طلب منه المخرج محمد خان أن يستعين بالبديل في مشهد السباحة، على اعتبار أنه لا يعرف السباحة، خاصة عندما علم بأن التصوير سيبدأ بعد شهر ونصف اختفى أسبوعان، وعاد بعدها وهو يجيد السباحة تماما. شاهد واحداً من أهم مشاهد أحمد زكي السينمائية إضغط لمشاهدة الفيديو: مواقف أثّرت في حياة الفهد الأسمر في حياة أحمد زكي عدة مواقف أثرت فيه وفي نشأته وفي حبه للتمثيل؛ الموقف الأول -على لسانه وكما يحكي- هو وفاة والده ونشأته وحيدا في بيت العائلة دون إخوة أو أهل يقفون في ظهره، وهو ما جعله يعيش وحيدا ولا يخالط الكثيرين. الموقف الثاني الذي أدمى قلبه كما يقول هو يوم أن شاهد والدته للمرة الأولى في حياته وهو في سنّ السابعة؛ حيث يحكي أنه عندما كان يعيش في بيت عائلة أبيه قدمت امرأة حزينة متشحة بالسواد نظرت له نظرة حزينة وقبلته ورحلت دون أن تتكلم معه، علم بعد ذلك أن هذه هي والدته. ويروي أحمد زكي في أحد حواراته: "في السابعة من عمري أدركت أنني لا أعرف كلمة أب وأم، وإلى اليوم عندما تمر في حوار مسلسل أو فيلم كلمة بابا أو ماما، أشعر بحرج، ويستعصي عليّ نطق الكلمة". ويضيف: "عندما كنت طالبا في مدرسة الزقازيق الثانوية كنت منطويا جدا؛ لكن الأشياء تنطبع في ذهني بطريقة عجيبة: تصرفات الناس، وابتساماتهم، وسكوتهم، ومن ركني المنزوي كنت أراقب العالم وتراكمت في داخلي الأحاسيس، وشعرت بحاجة لكي أصرخ، لكي أخرج ما في داخلي، وكان التمثيل هو المنفذ". وعن التمثيل يؤكد الراحل أنه ينتصر للإنسان في تمثيله؛ حيث قال في أحد الحوارات: "اليوم علينا معالجة الإنسان، أنا لا أجيد الفلسفة ولا العلوم العويصة، أنا رجل بسيط جدا لديه أحاسيس يريد التعبير عنها.. لست رجل مذهب سياسي ولا غيره، أنا إنسان ممثل يبحث عن وسائل للتعبير عن الإنسان". وأتبع: "الإنسان في هذا العصر يعيش وسط عواصف من الماديات الجنونية، والسينما في بلادنا تظل تتطرق إليه بسطحية.. إن هدفي هو ابن آدم، وتشريحه، والسير وراءه، وملاحقته، والكشف عما وراء الكلمات، وما هو خلف الحوار المباشر. وأردف: "الإنسان ومتناقضاته -أي إنسان- إذا حللته بعمق تجده يشبهني ويشبهك ويشبه غيرنا، المعاناة واحدة، والطبقات والثقافات عناصر مهمة، لكن الجوهر واحد، الجنون موحد، حروب وأسلحة وألم وخوف ودمار، كتلة غربية وكتلة شرقية، العالم كله غارق في العنف نفسه والقلق ذاته، والإنسان هو المطحون". أهم أعماله عمل أحمد زكي في العديد من الأفلام المهمة مثل: "زوجة رجل مهم"، و"البريء"، و"الحب فوق هضبة الهرم"، و"كابوريا"، و"الهروب" و"البيه البواب" و"أرض الخوف" وغيرها من الأفلام. كما عمل مع العديد من المخرجين البارزين؛ منهم: عاطف الطيب، ومحمد خان، وداوود عبد السيد، ويوسف شاهين، وإيناس الدغيدي، وشريف عرفة... وغيرهم. وأحمد زكي هو الفنان الوحيد الذي تألق في بطولة فيلمين حول اثنين من رؤساء الجمهورية السابقين؛ وهما: عبد الناصر في فيلم "ناصر 56"، وأنور السادات في فيلم "أيام السادات"، واستطاع انتزاع إعجاب الجميع عن أدائه للشخصيتين. كما كانت آخر أفلامه فيلم "حليم" الذي يروي حياة العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، ويروى أنه طلب من مخرج الفيلم أن يضمن مشهد جنازته هو الشخصية في الفيلم بدلا من جنازة العندليب الأسمر؛ حيث كان يعاني مرض السرطان وقتها، وكان يدرك أنه في أيامه الأخيرة. تمّ اختيار 6 أفلام للفتى الأسمر ضمن أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية؛ وهي: "زوجة رجل مهم"، و"البريء"، و"أحلام هند وكاميليا"، و"الحب فوق هضبة الهرم"، و"إسكندرية ليه"، و"أبناء الصمت". وفاته عانى الفنان الراحل مرض سرطان الرئة، وظلّ يعاني كثيرا مع هذا المرض، ودخل في صراع طويل معه، وعولج على نفقة الحكومة المصرية في الخارج، وتردد أنه أصيب بالعمى في أواخر أيامه؛ إلا أنه طلب من المحيطين به كتمان الخبر. رحل أحمد زكي عن دُنيانا يوم 27 مارس 2005؛ بعد أن قدّم مشوارا طويلا في السينما والمسرح والتليفزيون، وبعد أن انتصر للبسطاء وللإنسانية، فشيعته مصر كلها في مشهد مهيب يتذكره الجميع حتى يومنا هذا.. رحم الله أحمد زكي.