هل ممكن ييجي اليوم اللي المواطن المصري يخرج فيه للميدان، ويهتف: الشعب يريد عودة المخلوع حسني مبارك؟!! تخيلوا ده ممكن يحصل؟؟ هو لما ننتخب رئيس لا يعترف أصلاً بأنه حدثت ثورة.. وأن البلد ملك له ولزوجته وأبنائه.. ساعتها منتظر من الشعب إيه غير إنه يطالب بعودة المخلوع؛ بذريعة إن المخلوع وأبناءه أخذوا من البلد ما يكفيهم.. أما ذلك الرئيس الجديد فهيبتدي لسه السرقة!!
ولو لم تحدث تغييرات جوهرية بالدستور الجديد، وتُقلّص صلاحيات الرئيس التي أعطته صفات الألوهية في الدستور البائد، ماذا تنتظر من الشعب إلا أن يهتف: الشعب يريد عودة المخلوع؟!
وإن لم يتم احترام الدستور الجديد ويطبّق على الكبير قبل الصغير.. ولا يحدث كما كان مبارك ونظامه يفعل إن سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، أما إن كان الحرامي من المحاسيب فيكرم ويصبح وزيرًا.. إن استمر ذلك ماذا تنتظر من الشعب غير إنه يهتف: بالروح بالدم نفديك يا مخلوع!!
قد يقول البعض إن هتاف الشعب بذلك محال أن يحدث.. فمن الممكن أن يهتف الشعب ضد الرئيس الجديد؛ لإقالته إن كان فاسدًا أو ظالمًا، لكن أن يهتف بعودة المخلوع فذلك محال..
ولمن يقول ما سبق أقول له أنا واحد من الناس لن أقبل بأن يعود المخلوع إلى الحكم "إلا على جثتي"؛ لأني رأيت بعيني شهداء يسقطون في ميدان التحرير.. وأنا على يقين من أن ذلك كان بأمره وعلمه وتدبيره..
لكني هنا يا صديقي أتحدث عن الشعب.. لا عني ولا عنك..
أتحدث عن مواطن بسيط يستجلب قوته باليوم، فإن مرض يومًا لا قوت له..
ولا تظلمني وتظن أني أتحدث عن بسكلتة الإنتاج التي صدّعوا رؤوسنا بها..
ولكني أتحدث عن شعور نفسي عام قد يصيب الشعب.. وصفه أطباء علم النفس بأنه شعور إن اجتاح كيان شخص فقد يضرّ بنفسه وبمن حوله.. ذلك هو الشعور المسمى ب"الإحبااااااااااااااط"..
ساعة الحسم قد اقتربت.. فهكذا ينظر أغلب المواطنين إلى انتخابات الرئاسة القادمة.. والتي يسبقها ساعة حسم أخرى تتعلق بصياغة عقد جديد يوقّع عليه المواطن والحكومة معًا.. والمسمى اصطلاحًا بالدستور (اضغط على كلمة "دستور" لمعرفة معناها ببساطة).. لندخل إلى مرحلة البناء والتنمية..
وحتى لا يتعرض الشعب لذلك الشعور النفسي المحبط.. تعالوا سويًا نسافر إلى بلد أوروبي حدثت فيه ثورة.. ونعرف كيف يطالب شعبها الآن بعودة المخلوع!!
أوكرانيا عانت لسنوات تحت سيطرة فئة نخبوية متصاهرة مع السلطة تتقاسم معها المصالح والثراء.. كانوا يقسّمون ثروات الدولة على أنفسهم.. أما الشعب فكان يعيش الفقر والجوع، فضلاً عن الأمراض التي كان يعانيها المواطنون في ظل غياب كامل للرعاية الصحية.. (زي اللي كان عندنا بالظبط).
ليس ذلك فحسب، بل استغلت الطبقة الحاكمة في أوكرانيا نفوذها في أعمال احتكار وتربّح غير مشروع؛ من نقل وبيع الغاز المستورد من روسيا، وقرصنة أموال البلاد في شكل قروض من البنوك الوطنية ثم التهرّب من السداد، فضلاً عن هيمنة فئة قليلة من الأثرياء على قطاع المناجم ومصانع الصلب.. (وكأننا بنتكلم عننا بالظبط)..
كان رئيس الدولة آنذاك يدعى فيكتور يانكوفيتش.. والذي قرر في 2004 ترشيح نفسه للرئاسة لفترة جديدة.. لإكمال (لا مؤاخذة) مسيرة تنمية أوكرانيا!
في ذلك الوقت أعلن المعارض الأوكراني فيكتور يوشينكو ترشحه أمام الرئيس يانكوفيتش.. (ركّز معايا كويس في الأسماء علشان ماتتلخبطش.. الراجل الوحش الفاسد اسمه فيكتور يانكوفيتش.. والراجل المعارض ليه اللي مرشح نفسه قصاده اسمه فيكتور يوشينكو)...
المعارض يوشينكو الذي قرر منافسة الرئيس الأوكراني للقضاء على الفساد الذي سبّبه نظامه؛ كان معروفًا لدى كافة الشعب الأوكراني؛ وذلك لأنه تولى فترة زمنية رئاسة الوزراء وبعدها رئاسة البنك المركزي الأوكراني، وكان يُشهد له بطهارة ذمته المالية، ونزاهته، بل وإبداعه في المجال الاقتصادي والتنموي..
وأُجريت الانتخابات الأوكرانية في نوفمبر 2004 وكانت المفاجأة..
تم تزوير الانتخابات لصالح الرئيس يانكوفيتش.. على الرغم من كُره الشعب له ولفساده هو ونظامه (عارف إنك ماحسيتش بمفاجأة؛ لأن دي حاجة معروفة إن الانتخابات كانت هتتزور.. زي ما كان بيحصل عندنا بالظبط)..
عندها.. قرر الشعب الخروج للشارع في يناير 2005.. وأحدث ثورة عظيمة سُميت بالثورة البرتقالية؛ وذلك لأن المواطنين كانوا يخرجون إلى الميادين العامة بوشاح برتقالي اللون، واللون البرتقالي كان شعارًا لحملة الدعاية للمعارض الخاسر بالتزوير يوشينكو..
وعلى الفور أُحيل ملف الانتخابات الرئاسية إلى القضاء الأوكراني.. والذي قرر إبطال نتيجة الانتخابات.. وأقرّ بتزويرها، وقضى بإعادة إجرائها..
وتمت إعادة الانتخابات، وفاز يوشينكو بالأغلبية الكاسحة.. وكان أول ما طالب به هو إعادة صياغة الدستور.. وتعديل المواد الخاصة بصلاحيات الرئيس..
نُقلت التعديلات إلى البرلمان الأوكراني وأقرّها.. والتي تم بموجبها نقل الكثير من صلاحيات الرئيس إلى البرلمان.. بحيث تصبح الدولة رئاسية برلمانية، بدلاً من أن تكون رئاسية مطلقة، وحتى لا تكون جميع الصلاحيات في يد شخص واحد...
وقد أراد يوشينكو بذلك أن يحمّل المسئولية لشريك له في الحكم -وهو البرلمان- بدلاً من حملها وحده، وحينها وعد يوشينكو بالقضاء على الفساد ومحاربة المفسدين، وتوفير 11 مليون فرصة عمل.. وتحسين الوضع الاقتصادي المتردي للبلاد.. (وحاجات تانية كتييييير)..
وكانت الصدمة...
تقدّم عدد من المعارضة لرئيس الثورة يوشينكو ببطلان تعديلاته الدستورية أمام المحكمة الدستورية الأوكرانية، والتي قضت ببطلانها، وإعادة العمل بالدستور القديم لتظل أوكرانيا دولة رئاسية، وليتحمل رئيس الدولة مسئولية إعادة بناء الدولة ومحاربة الفساد وحده..
وتجدر الإشارة هناك إلى ملاحظة مهمة جدًا، وربما كانت هي المشكلة الكبرى للثورة الأوكرانية، وهي: أن رجال الأعمال الأوكرانيين قاموا بتمويل كافة نفقات الثورة الأوكرانية.. بدءا من تحمّل إعاشة الثوار في الميادين من مأكل ومشرب، وصولاً إلى تمويل حملة دعاية رئيس الثورة يوشينكو.. تسألني: طب وإيه المشكلة في الموضوع ده؟!!
المشكلة تكمن في أن هؤلاء أرادوا استرجاع أموالهم التي أنفقوها في الثورة، كما أرادوا أن يكون لهم نفوذ بالدولة كمقابل لتمويلهم الثورة.. وبالفعل مارسوا الفساد المالي والتجاري من ناحية، ولم تستطع الحكومة محاسبتهم من ناحية أخرى؛ لنفوذهم الاقتصادي التي منحته الدولة لهم كمقابل لجميلهم في حق الثورة..
لم يستطع يوشينكو أن يواجه وحده بوتقة الفساد التي خلّفتها له الحكومة البائدة، كما لم يستطع تحقيق حلم العاطلين والفقراء الذي ظلوا قابعين في فقرهم طوال الحكم البائد. كل هؤلاء خرجوا متسائلين: "هي الثورة عملت لنا إيه؟؟ العاطلون قالوا: لسه مش لاقيين شغل.. والفقراء قالوا: لسه مش لاقيين ناكل.. والثوار قالوا: الفساد لسه زي ما هو"..
وكانت المصيبة..
طالب الشعب بعودة المخلوع... إيه؟؟؟؟
نعم.. هذا بكل بساطة ما حدث.. جرت انتخابات الرئاسة في 2010 ورشّح الرئيس المخلوع فيكتور يانكوفيتش..
والمفاجأة والمصيبة في آن واحد..
أن المخلوع هو الذي فاز في الانتخابات.. وهو الذي يدير الدولة إلى الآن "وسلم لي على الثورة الأوكرانية.. وكل عام وهما بخير".. لم نقصّ عليكم هذه الأحداث لنمصمص الشفاه.. ونقول "عيني عليكي يا أوكرانيا".. ولكن رأينا أن دروسا قد نستخلصها، أترك لكم استيعابها، وأشدد لكم على أهمها...
أحسنوا الاختيار؛ فالرئيس القادم بحسن اختيارنا سينقل البلاد إلى ما قامت الثورة من أجله "عيش حرية عدالة اجتماعية"، وإلا دخلنا إلى أوضاع أسوأ حالاً.. لنجد منّا من يهتف "فينك يا مبارك".. ونجد مبارك نفسه أو مبارك شبيه يحكم البلاد.. وتبقى على ثورتنا السلام..
اللهم ولِّ علينا من يصلح.. ولا تولِّ علينا ظالمًا أو فاسدًا أو "مبارك جديد"!